وها قد تخلصوا منه .. كان العمل بالنسبة له كالهواء ومكان العمل كالمنزل .. أما نظرة العمل له فقد كان (العمل) -لو اعتبرناه كيانًا ماديًا- يراه بمثابة غاز ميثان خانق ..ووجوده كوجود الساعة الضخمة الموجودة فى كل بيت والموروثة دومًا من الجد بعد مماته !!
مشى محاذيًا له ...محتميًا به .. البحر ...
العمارة المتهالكة ..ستتهاوى يومًا ما ..ولو لم تفعل ..فسيأتى شخص ما يومًا ما يقول شيئًا ما عن الأساسات الغير ثابتة وتخلخل التربة ..ومن ثم سيهدمونها بأنفسهم ..
"إن لم يكن الأمر طبيعيًا ..فسيكون يدويًا !!"
ذاك هو منطقه الدائم ..
صعد الدرج متجاهلًا تلك الدرجة المكسورة ..صاعدًا وضاغطًا فى غل بحذائه عليها ..
"هاااه ..أنا أنفذ انتقامى على درجة سلم متفتتة .. إنه لأمر فاتن حقًا !!"
تحسس جيب البنطال فى قلق ..
"اللعنة ..الزهايمر .. ألا يجد أحمق غيرى لينغص حياته !!"
نسى المفاتيح كالعادة .. ما الجديد ؟؟!
عليه إذن أن ينتظر لما بعد الظهيرة .. ليعرج إلى منزل ابنته ليستخدم نسختها من المفاتيح ..!!
"لا مناص إذن ..لا مناص !!"
درجة السلم المفتتة من جديد .. اضغط عليها بغِل ..اضغط عليها ..
"كراك ..."
صرخت الدرجة محتجة .. لوح بيده فى غير اكتراث ..
"أنا أتشفى فيكِ !!"
.
فلينتظر الآن ..فليجلس هنا على ذلك الرصيف الملاصق للعمارة ..
والآن ماذا ؟؟ .. تلك الضربات المنتظمة على حجر الرصيف ..
يعرف ذلك الصوت .. حذاء أعلى من حذاء .. بسبب ذلك العيب الخلقى لديه ..قدم أطول من قدم .. لابد أن يكون هو ..وإلا فسيضيف (ضعف السمع) و (الهلوسة) إلى قائمة أمراضه الطويلة أصلًا !!
"يونس ..إنه أنت "
هتف بها حين تراءت له قسماته ..
"يوسف .. أنت هنا "
"لطالما كنت .. أهو البحر الذى رمى بك إلى هنا ؟؟!"
"نوعًا ما .. لقد جئت مستقلًا معدة حوت ..وقد خرجت للتو ..ظننتها وسيلة مواصلات جيدة ..لم يكن لدى علم بأن الحيتان تلتهم اللحم البشرى !!"
"وهل تلتهم اللحم البشرى ؟؟!"
شخص بعينيه لثوانِ ثم قال : "حوتى هذا يفعل على الأقل !!"
ابتسم يوسف قائلًا : "طردنى اخوتى للتو من الشركة ..أعنى أنهم يرون وجوب احالتى للمعاش المبكر .. نظرًا لصحتى التى أُهدرت مبكرًا "
سكت ثم استطرد : "هم يعرفون أن عملى حياتى .. يريدون اقتطاع حياتى من جذورها يا يونس ..يعلمون كذلك أننى لا زلت بقادر على العمل .. ما كانت فكرة التقاعد لتختمر فى ذهنى قبل خمسة عشر عامًا أخرى على الأقل !!"
"إنهم كثرة يا يوسف .. إحدى عشر أخًا ليسوا بالقليلين ،وقد تكتلوا .وتكالبوا عليك .. إنها هى تلك التكتلات اللعينة .. "
تدارك حساسية الموقف واستطرد : "آسف لسماع هذا "
"لا بأس يا يونس ..لا بأس "
ثم سأله : "يونس .. ماذا تعنى ؟؟"
"ماذا تعنى بـ (ماذا أعنى) ؟؟ "
"استقلالك بطن الحوت .. والحوت آكل البشر و ... كلامك غير مترابط !! "
تنهد يونس ورفع رأسه ويممه شطر البحر ،ثم قال :
"آااه .. دعك من هذا .. ظننتهم لوهلة مصطفين معى .. كانوا فقط ... يدفعوننى للوقوف أمام المدفع ..كانوا سيقفون خلفه عند أول غفلة منى .. لا عليك ..انس الأمر "
"لا تريد التحدث عن الأمر إذن ..حسنًا حسنًا .."
"هممممممم"
"يونس..."
"ماذا هنالك ؟؟"
"ألا ترى غرابة فى الأمر ؟؟"
"كُف عن تلك الألغاز ..ماذا تقصد ؟؟"
"أعنى أن مصائرنا تشبه ....."
"ماذا ؟؟ "
ابتسم يوسف بمرارة .. قهقه ..واستغفر ربه فى همسات .. ثم قال فى صوت بالكاد مسموع : "لا ..لا شىء ..."
ابتسم ليونس .. ابتسامة لم يرها لأن تركيزه بالكامل كان موجهًا لذلك الصديق .. لذا ..فقد حوّل وجهه لذلك الصديق ..
ابتسم ..
له ..
للبحر ...
ايه الروقان ده بس !
ردحذفيا سلام عليك يا رانيا