الثلاثاء، 23 يوليو 2013

عهد الأسطورة (4/7)

ارقد بسلام يا عهد الأسطورة .. ارقد بسلام فى صندوقك الخشبى الرابض فى ثنايا عقلى .. صندوق أضفيت عليه 
طبائع الكائنات يا عهد الأسطورة ما أن رقدت فيه .. كعهدى بك دومًا تُحوّل الأشياء إلى أشياء أفضل .. إلى كائنات ذات كينونة .. فما الكائنات من الأشياء إلا أشياء أفضل .. الكائنات أشياء يا عزيزى ..ولكنها أفضل بدرجة قليلة من الأشياء العادية ..
أقص عليك اليوم حكاية خضناها معًا منذ زمن .. حينما كنت فى العاشرة .فى الصف الخامس الإبتدائى .. لا تذكر ؟؟ .. لا عليك..ما واجبى إلا تذكيرك بما نسيت .. 
كان الوقت مبكرًا .. فى السابعة صباحًا على ما أذكر .. كنت وقتها سأخوض امتحان (علوم) بالمدرسة .. لم يكن امتحانًا نهائيًا .. مجرد امتحان شهرى .. ولكن اضفاء صفة (الإمتحان) فقط عليه ..كان كفيلًا لأن أسهر وقتًا لأذاكر جيدًا وكأننى فى طريقى للحصول على الدوكتوراة ..أو شىء كهذا !!
شقيقى كان مريضًا أو ... لا أعرف ..ولكن لسبب ما ..لم يركب معى حافلة المدرسة ذلك اليوم .. تقريبًا كان يعانى وجعًا فى معدته ..شىء كهذا .. وقد كان هذا الغياب عن المدرسة حكمة من حكم الله -جل شأنه- .. 
جلست فى مكانى بالحافلة .. لم تكن ميسون هناك .. ميسون هى تلك الفتاة المتحكمة قوية الشخصية وفى نفس سنتى الدراسية والتى اعتدت الجلوس جوارها ..كانت الحافلة تمر على منزلها بعدما أركب أنا ..لذا جلست أنتظر حتى نصل إلى منزلها الغير بعيد .. ولكنى سمعت ميس نعمة -المشرفة - تخبر عم ناصر -السائق- أن أبا ميسون سيتكفل بمهمة توصيلها حتى تصل فى ميعاد الطابور فلديها فقرة فى الإذاعة المدرسية اليوم ..لذا قبلت بالأمر وجلست وحدى .. ربما لن تتركنى (نعمة) وشأنى ..وستحشر أطفال (كى جى) حشرًا بجانبى .. لا أحد يجلس بمفرده فى هذه الحافلة ..كان هذا هو شعارها الدائم ..
مضت خمس دقائق منذ صعدت للحافلة ..وكنا نكاد نخرج من مدينة الرماية .. كان هذا حين سمعنا الطرقات ..
طرقات على زجاج النافذة بجوار السائق .. وعلى النافذة المجاورة للمقعد بجانب السائق .. صراخ وعويل .. الكل تفاجأ .. وأذكر جيدًا الجملة التى نطقت بها -آملةً فى إثارة جو من المزاح- : " دول ارهابيين دول ولا ايه ؟؟ ." 
قلتها ولم يضحك أحد .. كررتها من جديد .ولم يبد على أحد الإنتباه لكلماتى .. الكل كان مشرئبًا بعنقه إلى الأمام .. توقفت الحافلة .. ورأيت ذلك الرجل الذى كان يطرق على النافذة ..
"افتح يا مجرم .. افتح الشباك ..وقف الباص ..وقف الباص .. افتح يا سفاح .. افتح "
غير فاهم للأمر ، فتح عم ناصر النافذة المجاورة للمقعد بجانبه .. وهنا حاول الرجل إدخال جذعه إلى الداخل .. وهو يصرخ وذراعيه كالكلابات ..تريد الإمساك بتلابيب عم ناصر ..
عم ناصر ذو اللهجة الصعيدية كان من أولئك الـ (غلبانين) .. لا يفهم إلا ما قُدر له أن يفهمه .. ولا يرهق تفكيره بالتأملات ..وكل شىء خارج ذلك النطاق الذى فرضه على نفسه فهو -بلا جدال- هرطقات .لا أكثر ..
"فيه اييه .. فيه ايه .."
هتف عم ناصر .. فصرخ الرجل الذى حاول الدخول بجذعه من النافذة : " مش عارف فيه ايه يا مجرم . قتلتها ..قتلتها "
انتفض عم ناصر من موقعه على المقعد أمام عجلة القيادة .. وقام من مكانه .. لعله فكر أنه هو المستهدف .. ومن الواضح أن ذلك الرجل -أيًا كان مبتغاه- لن يتورع عن القيام بعمل جنونى ..إذن فليجعل المواجهة بالخارج بعيدًا عن أسماعنا وأنظارنا نحن أطفال المدرسة .. 
هتفت به ميس نعمة أن لا تذهب ..لعلهم مختلين أو بلطجية .. لكنه -عم ناصر - فتح الباب الأمامى المجاور لمقعده .. ونزل ..
وبتلقائية ،أطلت نعمة -لم تنزل بل أطلت- إلى الخارج .. ثم عادت على الفور حين فوجأت بالتجمع بالخارج .. لا ندرى من أين أتوا ..لكنهم تجمعوا هناك .. ثمة شىء جمعهم..ثمة شىء ينظرون إليه ويضربون كفًا بكف ويتمتمون : "لا حول ولا قوة إلا بالله" .. ثمة شىء متحور حوله كل ذلك الإهتمام .. 
لا أعلم كيف أتانا الخبر ..أمن عم ناصر حين صعد من جديد .. أم من نعمة التى لم تتحكم فى فضولها ونزلت لترى ما هنالك .. أم من أين .. لا أذكر .. لكننى أذكر أولئك الذين أتوا بورق الجرائد من مكان ما ..ربما من بائع الجرائد المتجول .. أتوا به من مكان ما وتواروا أمام الحافلة يفعلون به شيئًا ما .. عرفت فيما بعد أنهم كانوا يوارونها به ..سواء علمنا من ناصر أو من نعمة ..فقد علمنا .. علمنا بأن حافلتنا صدمت فتاة صغيرة .. قتلت فتاة صغيرة .. 
رأيت نعمة تدفن رأسها بين كفيها وتبكى .. تبكى بصوت عالٍ .. هاجر بكت ..شيرين بكت .. سارة بكت .. الأطفال الصغار فى الأريكة بالخلف فى مؤخرة الحافلة لم يبكوا .. كانوا يدارون استمتاعًا بذلك الحدث الغير اعتيادى الذى عكر صفو الحياة الروتينية .. الحدث الذى مكنهم من رؤية نعمة ،الأسطورة العاتية التى لا يقف فى وجهها طفل إلا ونال ما تناله الغزالة من الأسد ،تبكى ..فكروا بأن ذلك شىء لن يروه فى حياتهم مرتين .. أو لعل عدم بكائهم مرده إلى عدم إمتلاكهم الوعى الكافى أصلًا بما يجرى .. حاولت اعتصار مقلتىّ لأبكى .. فلم أقدر .. رأيت أن مهمتى الوحيدة الآن هى توزيع المناديل .. أمى كانت تستمتع بحشو حقيبتنى المدرسية ببواكى المناديل ..(فاين) و(فلورا) وغيرها .. لذا شرعت فى مهمتى الرسمية تلك .. رحت أستجدى مقلتىّ حتى تسعفانى بالدموع ..لكنهما لم تطيعا ..علام ستبكين يا حمقاء؟؟ ..وعلام يبكون هم ؟؟.. الدموع من نصيب والدىّ تلك التى ماتت .. من نصيب عائلتها .. أو من نصيب عم ناصر ..الذى صعد بخطوات متثاقلة وعاد إلى مقعده.. أسند رأسه لعجلة القيادة ورأيته يهتز وينتفض ..يبكى فى صمت ..
ذلك المراهق المدعو (أحمد هلال) بهرموناته التى تتقافز كالبراغيث مطالبةً إياه باستعراض رجولته ولعب دور المنقذ الهمام أمام الفتيات والأطفال .. قال فى أريحية بصوته الغليظ المشابه لصوت المنشار الكهربائى أثناء تقطيعه للخشب : 
"أنا هانزل يا ميس .. هاشوف اللى بيحـ ..."
"لأ يا أحمد ..إياك ..اقعد هنا بلاش هبل " 
قالتها نعمة وهى تغالب دموعها .. ولكنه -الأحمق- أصرّ وفتح الباب وأزاح ذراع نعمة الذى حاول ردعه من طريقه .. ونزل ..
تركته فى نهاية الأمر .. الأحمق لعب لعبة (الرجولة) إياها عليها .. وأشعرها -بشكل ما- إنه ليس ذلك الطفل الساذج الذى كانه منذ عدة شهور .. آه ،لم يعد طفلًا ساذجًا ..صار مراهقًا غريرًا ..يا له من تغيير يستحق الإعجاب ..
عاد الفتى خالى الوفاض من الأخبار .. لم يقصد بنزوله ذلك إلا إثارة الأهتمام وجذب الأنظار إليه لا أكثر ..
أذكر أننا جلسنا فى انتظار قدوم حافلة أخرى لتقلنا إلى المدرسة ..أما عم ناصر فبيبدو لى أنه كان بانتظار الشرطة أو شىء كهذا .. كنت لا أزال أستجدينى لكى أبكى .. ابكى يا حمقاء ابكى .. لكننى لم أفعل .. حين هبطنا جميعًا من الحافلة .. استعدادًا لاستقلال تلك التى أتت من المدرسة .. جاءت امرأة وراحت تصيح فينا : 
"تعالوا معايا يا حبايبى ..تعالوا اقعدكم معايا ..بيتى فى العمارة دى ..تعالوا ادفّوا(تدفأوا) عندى لحد ما الباص بتاعكم ييجى ..تعالوا .."
لكن صياحها تلاشى فى النهاية .. واختفت فى الزحام .. وسرعان ما أقبلت الحافلة ..وما إن صرنا على متنها حتى انقشع جو التوتر ذلك .. رغم أن بعض الفتيات ظللن فى حالة من الـ(إزبهلال) .. 
أما أنا فرأيت أنه من واجبى أن أقوم ببعض الـ(عويل) .. فلأستعمل موهبتى فى التمثيل .. كان شعورى بأننى لا أملك مشاعر تُبكينى كما بكوا جميعًا يقتلنى .. فقررت البدء فى التظاهر .. رحت أنهنه بصوت خافت ..وصرخت : "مش هايسيبونا ..وممكن البوليس يحقق معانا .. مش هايسيبونا " .. وجلست بجانب (هاجر) على ما أذكر وأوجعت أذنيها بكلماتى الجوفاء .. وحاولت البكاء مرارًا فلم تسعفنى عينيىّ .. سددت نعمة إلىّ نظرة نارية بأن اخرسى .. وكذا نظر إلىّ الجميع حتى لا أزيد الطين بلة بصراخى هذا .. 
كنت لا زلت أحتفظ ببقايا حب المغامرة الذى قتله فىّ أهلى .. بالطبع لست فرحة بموت الفتاة .. أظن أن الحدث خرق قوانين عالمى الروتينى الصارمة .. بالطبع حين وصلت المدرسة .. وما إن دخلت الفصل وجلست فى مكانى ..حتى وضعت رأسى على (الديسك) وتظاهرت بالبكاء .. ربما للفت الأنظار ..ربما لجذب الإنتباه ..لا أدرى ..ولكنى فعلت ذلك .. وأخذوا يسألوننى لم أبكى ..واستمتعت أنا بذلك كله.. لقد قلبت الأمور رأسًا على عقب وأثرت موجة من الإهتمام حولى .. مستر (علىّ) راح يلعب معى دور الأب وأصر على أن يعرف ذلك الذى أبكانى ..وراح يتساءل مازحًا : "قوليلى بس اللى زعللك وأنا هاضربهولك وآخدلك حقك منه "
 وانطلقت أنا أسرد ما جرى .. تمثيلى كان بارعًا لدرجة أنه أرسلنى لأغسل وجهى ..بالرغم من أننى لم أذرف دمعة !!
وقال لى مازحًا وأنا فى طريقى إلى الباب :
"السواق هو اللى خبطها ولا انتى ؟؟..بتعيطى ليه طيب ؟؟"
 ..
قررت بعدها استغلال الموقف لصالحى إلى أقصى حد .. إذا لم أبل حسنًا فى الإمتحان .. فستكون هذه هى ذريعتى أمام أمى .. ملأت يومها الدنيا صراخًا وعرجت على مكتب المدير ..ورحت أسرد على مسامعهم القصة .. لعلهم يتصلون بأمى تقديرًا لصدمتى وحالتى النفسية ..فأنجو من الإمتحان .. وأعود إلى المنزل وترعانى أمى وتُحَضّر لى الشاى باللبن مع شطائر جبن (لا فاش كيرى) .. لكنهم طلبوا إلىّ العودة إلى فصلى ..وأن أخوض الإمتحان ووعدونى بأنهم يهتمون بالأمر .. يبدو أن الخبر لم يصلهم بعد ..وخشيت حينها أن تعرف نعمة أننى أبلغتهم بالأمر، لربما يكون فى عدم علمهم بالأمر حكمة ما ،فأكون أنا من أفسد تلك (الحكمة) .. لكن الخبر قد انتشر كالنار فى الهشيم رغم أنف أصحاب المدرسة .. لا جدوى من إخفاء شىء نفاذ الرائحة كهذا ..
زادت حيرتى حين طلبت من أصدقاء ميسون أن يُعلموها بالأمر .. فجاءتنى فى الفسحة تستند على كتفىّ اثنين من أصدقائها ..تبكى فى حرقة وتسألنى إن كنت أقول الحقيقة أم لا ..أحدث هذا فعلًا أم أننى أداعبها .. 
ميسون التى لم تر من الأمر شيئًا تكاد تفقد الوعى وتبكى بتلك الحرقة .. وأنا .. أنا التى كنت أجلس فى المقدمة ويحدث كل شىء على مرأى ومسمع منى ..لم أذرف دمعة .. !! 
والآن .. أما زلت لا تذكر هذا يا عهد الأسطورة ؟؟ .. الغريب أننى -حتى الآن- لم أذرف على الأمر دمعة واحدة .. ما الأمر يا عهد الأسطورة ؟؟ .. أأكون خالية من الأحاسيس ومعدومتها .. لا أدرى ..راسلنى قريبًا إن بلغتك معلومات بالأمر ..
                                                     
                                                          بإخلاص 
                                                            رانيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق