(مـ)ـشى إلى اليسار -كما أخبرته- ليجد المطبخ هنالك .. دلف إلى المطبخ بقامته الطويلة النحيلة .. ودار بعينيه فى المكان .. مطبخ بلون الكراميل ..سيراميك مكسو بالأوساخ .. وأعد البرّاد المغطى بالأوساخ والدهون لتسخين المياه ..
"الشاى فين يا حاجّة ؟؟ .."
أتاه صوتها الرفيع الأشبه بصوت فزاعة الحقل لو تكلمت :
"عندك ع الرف الإزاز يابنى ..وهاتلاقى جنبه السكر ."
"آه ..شكرًا "
تحسس ما فى جيبه الأيسر .. سمع صوت خشخشة الكيس إذ تحسسه بأصابعه .. أخرجه ببطء من جيبه وتأمل المسحوق الأبيض فيه .. وبيده الأخرى استطاع الحصول على كوبين نظيفين وزع فيهما الشاى والسكر .. واختار أحدهما ..مرسوم عليه سندريللا صغيرة تنظف أرضية منزل زوجة أبيها بمقشة وترتدى أسمالًا ومريولة مطبخ متسخة ..وضع فى ذلك الكوب مقدارًا من المسحوق الأبيض .. ومن ثم أعاد الكيس إلى جيبه الأيسر من جديد .. ووقف يتأمل السيراميك حتى بدأ البرّاد فى صراخ متصل مخبرًا إياه أن درجة حرارة الماء قد وصلت إلى المائة ..
صبّ الماء الساخن فى الكوبين كليهما .. وحرص على عدم ملأ الكوب لآخره حتى يجد جزءًا باردًا يستطيع أن يمسك منه الكوب ..
مشى عائدًا إلى الصالة حيث تجلس هى تتأمل السقف .. فى حذر وضع الكوبين أمامها على تلك المنضدة الصغيرة .. ثم غاص فى كرسيه مجاورًا لها .. ألقى عليها نظرة بطرف عينه اليمنى .. كانت الستائر تحول دون دخول ضوء الشمس .. لكنه كان يخترقها معاندًا ويدخل الحجرة مضفيًا عليها لونًا أحمر قانيًا .. شعر برعشة .. وبعض الحميمية لتلك العجوز ..شاء القدر أن يكون من أطفال الزنا .. تخلصت منه أمه فور خروجه للدنيا ..
ضغط على رعشاته وأفكاره المضطربة ..إنه بحاجة إلى النقود..عليه إتمام ما جاء لأجله .. ومدّ يده إلى كوب سيندريللا ..
"اتفضلى يا حاجّة .. اشربى وادعيلى !!"
تسلمت منه الكوب فى رفق ورمقته بنظرة لم يدر أتحوى امتنانًا أم حقدًا على ذلك المتطفل الذى اقتحم حياتها ودخل مطبخها لإعداد الشاى .. آثر اعتبارها نظرة امتنان فابتسم لها مشجعًا ..
قربت العجوز أنفًا متعبًا من الكوب ذى المحتوى الساخن ..
"سُخن أوى يابنى .. هاسيبه لما يبرد .. بطنى ماتستحملش"
هنا لم يدر حقًا بما يشعر به .. تخالجه بعض خيبة الأمل والكثير من السعادة التى لم يقدر على كبتها .. فانطفحت على وجهه فى صورة ابتسامة مريرة ..
"كلمينى عن حياتك يا حاجّة "
جاء طلبه مباغتًا .. أومأت برأسها وسألت :
"عايز تعرف ايه يابنى ؟؟"
عض شفته السفلى ثم قال : "عندك أولاد ؟؟ "
أومأت من جديد وابتسمت فى سخرية ..وكأنها تسخر من الظلم الذى أحيق بها : "ولدين وبنت .. اتجوزوا وكله قاعد مع عياله .."
كان يعرف كل هذه التفاصيل .. ويعرف ابنيها (سليم) و (لقمان) ..وابنتها (مىّ) .. لكنه أحبّ سماع الحديث من هذا الفمّ المسن المتعب ..وبذلك الصوت المتحشرج ..
سألها :
"ومش بيجولك هنا خالص ؟؟"
بللت شفتيها المتشقتتين بلسانها وبدت منهمكة فى التفكير وهى تقول :
"أهو من وقت للتانى .. مىّ جاتلى الأسبوع اللى فات مرتين.. المرة الأولى جت ومعاها السمك المقلى والرز الأحمر .. قلتلها انى عاملة ريجيم ..عشان لما تخلينى أشوف أولادها مايقولوش إن جدتهم تخينة وعجوزة ووحشة .. عشان كده لفيت السمك فى مناديل أول ما دخلت تكلم جوزها فى التليفون .. ورميته تحت فى المنور من شباك المطبخ .. "
اتسعت عيناه ورفع حاجبيه مندهشًا ..
"وهى ماكتشفتش ؟؟ "
قالت وهى تضع الشاى فى مكانه على المنضدة حتى يبرد :
"شافته وهى طالعة من بيتى بالصدفة ..كانت راكنة عربيتها جنب المنور .. وشافت السمك الملفوف بمناديل .. "
للحظة لم يجد ما يُقال ..وأطرق برأسه ناظرًا للأسفل ..ووجد نفسه فجأة معجبًا جدًا بنقوش السجادة المتسخة .. هذا نقش يبدو كثعبان يتلوى ..وهذا آخر يبدو كسلحفاة تسير على قدمين كالإنسان ..وهذا ....
قطعت الصمت حين قالت :
"المرة التانية اللى زارتنى فيها ..جابت صينية كفتة فى الفرن وفضلت قاعدة معايا ..وحطتلى الأكل فى بُقى زى العيال الصغيرة .. فاكرة كده إنها بتهتم بأمها .. "
سكتت لوهلة ثم قالت وكأنما تستطرد ما قالته :
"بس أنا دخلت الحمام وحطيت صباعى فى بُقى ورجّعت كل اللى أكلتهونى .. مش عايزة أحفادى يقولوا إنى عجزت وخرفت وبقيت زى الفيل أو الدبّة ..أهو باعمل أى حاجة وخلاص عشان ابقى جميلة ..أدامهم لما يزورونى .. أى حاجة وخلاص!! "
رفع عينين متسائلتين نحوها وانفرجت شفتاه قليلًا .. أوشك أن يطلعها على كل شىء .. أن يخبرها بألا تعلّق آمالًا كثيرة على أبنائها ..لم يعودوا يكنون لها أى نوع من الحب ..ودّ لو أخبرها أنهم يبغون التخلص منها .. لكنه بحاجة إلى النقود وعليه إتمام المهمة ..
انقطعت تأملاته فجأة حين رآها تمد يدًا معروقة نحو كوب (سيندريللا) .. انتفض فجأة ثم :
"استنى يا حاجّة ..خدى الكباية التانية .. فيها سكر أقل ..عشان الدايت "
بدت الدهشة على وجهها .. وأومأت واضعة كوب سيندريللا فى مكانه من جديد وتناولت الكوب الآخر .. وسرّه أن يراها ترتشف منه بتلذذ ..
"شايك زى العسل يابنى .. شكرًا "
"دى أقل حاجة ....."
ثم أردف : " أقل حاجة بالنسبة لأمى"
لم يبد عليها رد فعل محدد .. لكنها -فى الداخل- شعرت بدفء لم تستشعره منذ زمن ..ربما شعرت به للمرة الأخيرة حين كانت ترضع (لقمان) ..أو حين كانت تسير هى ومىّ الصغيرة،متشابكتىّ الأيدى فى الماركيت الكبير .. حين كانت تضع (سليم) فى عربة التسوق وتداعبه بينما تدفع بالعربة وتخبره بأنهما فى سباق سيارات وأن عليهما اللحاق بالمتسابقين الآخرين ..
ومن ناحية أخرى .. بدأ صراع غريب يتخذ مكانًا بداخله .. لا جدال الآن ..لن يقتل تلك العجوز .. لن يقتلها بل كان عليه أن يقتل (سليم) و(لقمان) و (مىّ) منذ وقت طويل ...
إنها تعانى بما فيه الكفاية .. إنها تخاف الطعام وتتقيأ ما ينزل فى جوفها .. لو لم تمت بأمراض الشيخوخة فستموت بنقص الصوديوم أو بانحشار الطعام فى مريئها ..
لقد كانت الخطة كالتالى : يبتاع الديجيتوكسين والمحقن الطبى .. والمسحوق المنوم .. سيجد طريقة ما للتواصل معها .. لدخول شقتها ربما .. سيجعلها تتناول المنوم بأى طريقة .. اقترح عليه (لقمان) أن يختطفها ويخدرها فى سيارة ثم يتخلص منها فى أى مكان مقفر .. لكنه لم يعتد هذا الأسلوب ..كل عملياته من قبل كانت هادئة وبلا عنف أو مقاومة ..يحدث الأمر بلا علم من الضحية .. الأمر كالقتل الرحيم للحيوانات .. فى اللحظة الأخيرة فقط يدرك الحصان المريض أنه قد خُدع وأنهم أطلقوا عليه الرصاص بالفعل ..
أخبروه بأنها تتناول دواء الديجيتوكسين ذاك ..وهو دواء يعمل على تقوية عضلة القلب .. إن لم تكن هى تعانى من أمراض القلب فلا أحد يعانى منها إذن .. استغل هذه النقطة ووضع خطته على هذا الأساس .. هى تتعاطى الديجوتكسين بالفعل كجزء من علاجها .. فإذا اشتُبه فى حدوث جريمة .. وتم تشريح الجثة .. لن يرتابوا فى أمر الديجوتوكسين الذى سيجدون الكثير منه بداخلها .. سيفترضون أن الصيدلى قد قام بخطأ ما وزاد من الجرعة فى الدواء .. أو أن الديجوتكسين دواء ذو أثر تراكمى ..أى أن جرعاتها منه راحت تتراكم بداخلها حتى قتلتها فى النهاية .. سارت الأمور بمنتهى السهولة بالنسبة له .. كانت ستشرب الشاى من كوب سندريللا الذى وضع فيه المسحوق المنوم .. كانت ستنام بعمق وللمرة الأخيرة .. كان سيحقنها تحت الجلد بالديجيتوكسين .. ثم يعود إلى الأبناء الثلاثة ..ويتقاضى أجره .. كان العربون كبيرًا .. كان الأمر مغريًا .. وقد أخبروه أنها شاخت وهرمت ..وبدأت تتحدث عن (الدايت) وعمليات شد البشرة .. وصارت ترتاد صالون تجميل (نانى) أكثر مما ترتاد عيادة طبيبها .. أخبروه عن صبغ الشعر وتشذيب الحاجبين وتقليم الأظافر .. وأخبروه أنهم يرحمونها من حياة مليئة بالخرف والضياع .. أخبروه أن ما تبقى لها لتعيشه ليس بالكثير ..فما الفارق بين أن تموت الآن أو بعد سنة أخرى تقضيها فى ظلام الخرف والشيخوخة ..
سيضعون أيديهم على الميراث ويلتهمونه كله .. وقد أخبروه أنهم بحاجة إلى ذلك الميراث .. وأقنعوه بأن استثمار النقود فى مشاريعهم أفضل من تكنيزها أو رميها على أرضية صالون التجميل ..
وقد قبل بالأمر .. (سليم) و(لقمان) و(مىّ) .. لقد كدتم تفعلونها وتتخلصون من أمكم العجوز .. لكم تثيرون اشمئزازى .. تبًا لكم من ماديين ..حطبًا للنار ستكونون .. اللعنة عليكم ثلاثتكم فلن أقتلها ..فهى أمى !!
"ينفع ... ينفع أستخدم الحمام ..قبل ما أمشى ؟؟"
رفعت رأسها إليه وقالت وهى تومأ :
"طبعًا يابنى.. جنب المطبخ على طول ..خد راحتك "
مشى مطرقًا .. وما إن انغلق باب الحمام .. حتى أخرج المحقن من جيبه الأيمن وأفرغ ما كان فيه فى الحوض الصغير .. ثم فتح الصنبور ..لم يعد السائل القاتل مشكلته بعد الآن .. بل هو مشكلة الصراصير سيئة الحظ التى تسكن فى أعماق المجارى ..
رمى الماء على وجهه .. وشعر ببعض الإنتعاش .. سيخبرهم أنه يتراجع .. لن يقوم بذلك أبدًا .. وليذهبوا إلى حيث ألقت .!!
انفتح الباب .. وخرج هو بوجه مبلل .. وجيب أيمن به محقن فارغ ..
واتجه إلى حيث تجلس هناك على الأريكة ..أمامها كوب (سيندريللا) ..
كانت نائمة ..مغمضة العنين .. كوب الشاى الذى كان بين راحتيها منذ دقائق قد سقط من يدها المتدلية بجانبها ونسكبت محتوياته على السجاد المتسخ ..فزادته اتساخًا على اتساخ ..
اتجه نحوها .. وقف أمامها .. تأملها ..
"حاجّة .. حاجّة .."
قالها بصوت خافت ..
"حاجّة ..حاجّة"
بصوت أعلى ..
ثم بدأ يهزها فى رفق .. يهزها فى رفق أقل .. يهزها بقوة .. يهزها بيأس ..
"أمى .. أمى !!"
تحسس عروق رقبتها باحثًا عنه ..النبض ..فلم يعثر له على أثر .. مرر يده إلى موضع القلب .. فوجد أن الأمر قد انتهى ..
لقد حانت ساعتها بالفعل وتكفل عزرائيل بالمهمة .. كانت ستموت على أية حال لو لم يقتلها .. تشفوا الآن وافرحوا وارقصوا حتى الصباح أيها الملاعين الثلاثة .. كانت تفعل كل ذلك حتى تظهر جميلة أمامكم وأمام أبنائكم ..يا ملاعين ..يا أبناء الشيطان ..!!
ارتمى على الأرض .. ولم يكترث للبقعة المبللة التى جلس فوقها -الشاى المنسكب- .. راح ينشج لدقائق .. ولم يدر ما الخطوة التالية ...
سيعود إليهم بالمحقن الفارغ وكيس المنوم الذى استهلك منه مقدارًا صغيرًا وضعه فى كوب (سندريللا) ..
نعم ، سيفعل .. سينال نقودهم وسيقيم لها بها جنازة لائقة .. ولينعموا هم بالميراث وليبتاعوا به ثيابًا مطرزة بالذهب يرفلون بها فى حفلات المجتمع .. سينعم هو بالسكينة ويكتفى بها ...
وقف على قدميه أخيرًا .. جفف وجهه المبلل بخليط من دموع مالحة وماء صنبور عذب .. وأخذ طريقه نحو باب الشقة .. ثم تذكر ..
كوب (سيندريللا) .. عاد إلى حيث تركته هى فى موضعه على المنضدة .. أمسك به باصبعيه السبابة والإبهام .. وفكر :
"سأحتاج إلى النوم العميق بعد كل هذا غالبًا .. النوم العميق "
ثم فتح الباب .. وخرج !!
"الشاى فين يا حاجّة ؟؟ .."
أتاه صوتها الرفيع الأشبه بصوت فزاعة الحقل لو تكلمت :
"عندك ع الرف الإزاز يابنى ..وهاتلاقى جنبه السكر ."
"آه ..شكرًا "
تحسس ما فى جيبه الأيسر .. سمع صوت خشخشة الكيس إذ تحسسه بأصابعه .. أخرجه ببطء من جيبه وتأمل المسحوق الأبيض فيه .. وبيده الأخرى استطاع الحصول على كوبين نظيفين وزع فيهما الشاى والسكر .. واختار أحدهما ..مرسوم عليه سندريللا صغيرة تنظف أرضية منزل زوجة أبيها بمقشة وترتدى أسمالًا ومريولة مطبخ متسخة ..وضع فى ذلك الكوب مقدارًا من المسحوق الأبيض .. ومن ثم أعاد الكيس إلى جيبه الأيسر من جديد .. ووقف يتأمل السيراميك حتى بدأ البرّاد فى صراخ متصل مخبرًا إياه أن درجة حرارة الماء قد وصلت إلى المائة ..
صبّ الماء الساخن فى الكوبين كليهما .. وحرص على عدم ملأ الكوب لآخره حتى يجد جزءًا باردًا يستطيع أن يمسك منه الكوب ..
مشى عائدًا إلى الصالة حيث تجلس هى تتأمل السقف .. فى حذر وضع الكوبين أمامها على تلك المنضدة الصغيرة .. ثم غاص فى كرسيه مجاورًا لها .. ألقى عليها نظرة بطرف عينه اليمنى .. كانت الستائر تحول دون دخول ضوء الشمس .. لكنه كان يخترقها معاندًا ويدخل الحجرة مضفيًا عليها لونًا أحمر قانيًا .. شعر برعشة .. وبعض الحميمية لتلك العجوز ..شاء القدر أن يكون من أطفال الزنا .. تخلصت منه أمه فور خروجه للدنيا ..
ضغط على رعشاته وأفكاره المضطربة ..إنه بحاجة إلى النقود..عليه إتمام ما جاء لأجله .. ومدّ يده إلى كوب سيندريللا ..
"اتفضلى يا حاجّة .. اشربى وادعيلى !!"
تسلمت منه الكوب فى رفق ورمقته بنظرة لم يدر أتحوى امتنانًا أم حقدًا على ذلك المتطفل الذى اقتحم حياتها ودخل مطبخها لإعداد الشاى .. آثر اعتبارها نظرة امتنان فابتسم لها مشجعًا ..
قربت العجوز أنفًا متعبًا من الكوب ذى المحتوى الساخن ..
"سُخن أوى يابنى .. هاسيبه لما يبرد .. بطنى ماتستحملش"
هنا لم يدر حقًا بما يشعر به .. تخالجه بعض خيبة الأمل والكثير من السعادة التى لم يقدر على كبتها .. فانطفحت على وجهه فى صورة ابتسامة مريرة ..
"كلمينى عن حياتك يا حاجّة "
جاء طلبه مباغتًا .. أومأت برأسها وسألت :
"عايز تعرف ايه يابنى ؟؟"
عض شفته السفلى ثم قال : "عندك أولاد ؟؟ "
أومأت من جديد وابتسمت فى سخرية ..وكأنها تسخر من الظلم الذى أحيق بها : "ولدين وبنت .. اتجوزوا وكله قاعد مع عياله .."
كان يعرف كل هذه التفاصيل .. ويعرف ابنيها (سليم) و (لقمان) ..وابنتها (مىّ) .. لكنه أحبّ سماع الحديث من هذا الفمّ المسن المتعب ..وبذلك الصوت المتحشرج ..
سألها :
"ومش بيجولك هنا خالص ؟؟"
بللت شفتيها المتشقتتين بلسانها وبدت منهمكة فى التفكير وهى تقول :
"أهو من وقت للتانى .. مىّ جاتلى الأسبوع اللى فات مرتين.. المرة الأولى جت ومعاها السمك المقلى والرز الأحمر .. قلتلها انى عاملة ريجيم ..عشان لما تخلينى أشوف أولادها مايقولوش إن جدتهم تخينة وعجوزة ووحشة .. عشان كده لفيت السمك فى مناديل أول ما دخلت تكلم جوزها فى التليفون .. ورميته تحت فى المنور من شباك المطبخ .. "
اتسعت عيناه ورفع حاجبيه مندهشًا ..
"وهى ماكتشفتش ؟؟ "
قالت وهى تضع الشاى فى مكانه على المنضدة حتى يبرد :
"شافته وهى طالعة من بيتى بالصدفة ..كانت راكنة عربيتها جنب المنور .. وشافت السمك الملفوف بمناديل .. "
للحظة لم يجد ما يُقال ..وأطرق برأسه ناظرًا للأسفل ..ووجد نفسه فجأة معجبًا جدًا بنقوش السجادة المتسخة .. هذا نقش يبدو كثعبان يتلوى ..وهذا آخر يبدو كسلحفاة تسير على قدمين كالإنسان ..وهذا ....
قطعت الصمت حين قالت :
"المرة التانية اللى زارتنى فيها ..جابت صينية كفتة فى الفرن وفضلت قاعدة معايا ..وحطتلى الأكل فى بُقى زى العيال الصغيرة .. فاكرة كده إنها بتهتم بأمها .. "
سكتت لوهلة ثم قالت وكأنما تستطرد ما قالته :
"بس أنا دخلت الحمام وحطيت صباعى فى بُقى ورجّعت كل اللى أكلتهونى .. مش عايزة أحفادى يقولوا إنى عجزت وخرفت وبقيت زى الفيل أو الدبّة ..أهو باعمل أى حاجة وخلاص عشان ابقى جميلة ..أدامهم لما يزورونى .. أى حاجة وخلاص!! "
رفع عينين متسائلتين نحوها وانفرجت شفتاه قليلًا .. أوشك أن يطلعها على كل شىء .. أن يخبرها بألا تعلّق آمالًا كثيرة على أبنائها ..لم يعودوا يكنون لها أى نوع من الحب ..ودّ لو أخبرها أنهم يبغون التخلص منها .. لكنه بحاجة إلى النقود وعليه إتمام المهمة ..
انقطعت تأملاته فجأة حين رآها تمد يدًا معروقة نحو كوب (سيندريللا) .. انتفض فجأة ثم :
"استنى يا حاجّة ..خدى الكباية التانية .. فيها سكر أقل ..عشان الدايت "
بدت الدهشة على وجهها .. وأومأت واضعة كوب سيندريللا فى مكانه من جديد وتناولت الكوب الآخر .. وسرّه أن يراها ترتشف منه بتلذذ ..
"شايك زى العسل يابنى .. شكرًا "
"دى أقل حاجة ....."
ثم أردف : " أقل حاجة بالنسبة لأمى"
لم يبد عليها رد فعل محدد .. لكنها -فى الداخل- شعرت بدفء لم تستشعره منذ زمن ..ربما شعرت به للمرة الأخيرة حين كانت ترضع (لقمان) ..أو حين كانت تسير هى ومىّ الصغيرة،متشابكتىّ الأيدى فى الماركيت الكبير .. حين كانت تضع (سليم) فى عربة التسوق وتداعبه بينما تدفع بالعربة وتخبره بأنهما فى سباق سيارات وأن عليهما اللحاق بالمتسابقين الآخرين ..
ومن ناحية أخرى .. بدأ صراع غريب يتخذ مكانًا بداخله .. لا جدال الآن ..لن يقتل تلك العجوز .. لن يقتلها بل كان عليه أن يقتل (سليم) و(لقمان) و (مىّ) منذ وقت طويل ...
إنها تعانى بما فيه الكفاية .. إنها تخاف الطعام وتتقيأ ما ينزل فى جوفها .. لو لم تمت بأمراض الشيخوخة فستموت بنقص الصوديوم أو بانحشار الطعام فى مريئها ..
لقد كانت الخطة كالتالى : يبتاع الديجيتوكسين والمحقن الطبى .. والمسحوق المنوم .. سيجد طريقة ما للتواصل معها .. لدخول شقتها ربما .. سيجعلها تتناول المنوم بأى طريقة .. اقترح عليه (لقمان) أن يختطفها ويخدرها فى سيارة ثم يتخلص منها فى أى مكان مقفر .. لكنه لم يعتد هذا الأسلوب ..كل عملياته من قبل كانت هادئة وبلا عنف أو مقاومة ..يحدث الأمر بلا علم من الضحية .. الأمر كالقتل الرحيم للحيوانات .. فى اللحظة الأخيرة فقط يدرك الحصان المريض أنه قد خُدع وأنهم أطلقوا عليه الرصاص بالفعل ..
أخبروه بأنها تتناول دواء الديجيتوكسين ذاك ..وهو دواء يعمل على تقوية عضلة القلب .. إن لم تكن هى تعانى من أمراض القلب فلا أحد يعانى منها إذن .. استغل هذه النقطة ووضع خطته على هذا الأساس .. هى تتعاطى الديجوتكسين بالفعل كجزء من علاجها .. فإذا اشتُبه فى حدوث جريمة .. وتم تشريح الجثة .. لن يرتابوا فى أمر الديجوتوكسين الذى سيجدون الكثير منه بداخلها .. سيفترضون أن الصيدلى قد قام بخطأ ما وزاد من الجرعة فى الدواء .. أو أن الديجوتكسين دواء ذو أثر تراكمى ..أى أن جرعاتها منه راحت تتراكم بداخلها حتى قتلتها فى النهاية .. سارت الأمور بمنتهى السهولة بالنسبة له .. كانت ستشرب الشاى من كوب سندريللا الذى وضع فيه المسحوق المنوم .. كانت ستنام بعمق وللمرة الأخيرة .. كان سيحقنها تحت الجلد بالديجيتوكسين .. ثم يعود إلى الأبناء الثلاثة ..ويتقاضى أجره .. كان العربون كبيرًا .. كان الأمر مغريًا .. وقد أخبروه أنها شاخت وهرمت ..وبدأت تتحدث عن (الدايت) وعمليات شد البشرة .. وصارت ترتاد صالون تجميل (نانى) أكثر مما ترتاد عيادة طبيبها .. أخبروه عن صبغ الشعر وتشذيب الحاجبين وتقليم الأظافر .. وأخبروه أنهم يرحمونها من حياة مليئة بالخرف والضياع .. أخبروه أن ما تبقى لها لتعيشه ليس بالكثير ..فما الفارق بين أن تموت الآن أو بعد سنة أخرى تقضيها فى ظلام الخرف والشيخوخة ..
سيضعون أيديهم على الميراث ويلتهمونه كله .. وقد أخبروه أنهم بحاجة إلى ذلك الميراث .. وأقنعوه بأن استثمار النقود فى مشاريعهم أفضل من تكنيزها أو رميها على أرضية صالون التجميل ..
وقد قبل بالأمر .. (سليم) و(لقمان) و(مىّ) .. لقد كدتم تفعلونها وتتخلصون من أمكم العجوز .. لكم تثيرون اشمئزازى .. تبًا لكم من ماديين ..حطبًا للنار ستكونون .. اللعنة عليكم ثلاثتكم فلن أقتلها ..فهى أمى !!
"ينفع ... ينفع أستخدم الحمام ..قبل ما أمشى ؟؟"
رفعت رأسها إليه وقالت وهى تومأ :
"طبعًا يابنى.. جنب المطبخ على طول ..خد راحتك "
مشى مطرقًا .. وما إن انغلق باب الحمام .. حتى أخرج المحقن من جيبه الأيمن وأفرغ ما كان فيه فى الحوض الصغير .. ثم فتح الصنبور ..لم يعد السائل القاتل مشكلته بعد الآن .. بل هو مشكلة الصراصير سيئة الحظ التى تسكن فى أعماق المجارى ..
رمى الماء على وجهه .. وشعر ببعض الإنتعاش .. سيخبرهم أنه يتراجع .. لن يقوم بذلك أبدًا .. وليذهبوا إلى حيث ألقت .!!
انفتح الباب .. وخرج هو بوجه مبلل .. وجيب أيمن به محقن فارغ ..
واتجه إلى حيث تجلس هناك على الأريكة ..أمامها كوب (سيندريللا) ..
كانت نائمة ..مغمضة العنين .. كوب الشاى الذى كان بين راحتيها منذ دقائق قد سقط من يدها المتدلية بجانبها ونسكبت محتوياته على السجاد المتسخ ..فزادته اتساخًا على اتساخ ..
اتجه نحوها .. وقف أمامها .. تأملها ..
"حاجّة .. حاجّة .."
قالها بصوت خافت ..
"حاجّة ..حاجّة"
بصوت أعلى ..
ثم بدأ يهزها فى رفق .. يهزها فى رفق أقل .. يهزها بقوة .. يهزها بيأس ..
"أمى .. أمى !!"
تحسس عروق رقبتها باحثًا عنه ..النبض ..فلم يعثر له على أثر .. مرر يده إلى موضع القلب .. فوجد أن الأمر قد انتهى ..
لقد حانت ساعتها بالفعل وتكفل عزرائيل بالمهمة .. كانت ستموت على أية حال لو لم يقتلها .. تشفوا الآن وافرحوا وارقصوا حتى الصباح أيها الملاعين الثلاثة .. كانت تفعل كل ذلك حتى تظهر جميلة أمامكم وأمام أبنائكم ..يا ملاعين ..يا أبناء الشيطان ..!!
ارتمى على الأرض .. ولم يكترث للبقعة المبللة التى جلس فوقها -الشاى المنسكب- .. راح ينشج لدقائق .. ولم يدر ما الخطوة التالية ...
سيعود إليهم بالمحقن الفارغ وكيس المنوم الذى استهلك منه مقدارًا صغيرًا وضعه فى كوب (سندريللا) ..
نعم ، سيفعل .. سينال نقودهم وسيقيم لها بها جنازة لائقة .. ولينعموا هم بالميراث وليبتاعوا به ثيابًا مطرزة بالذهب يرفلون بها فى حفلات المجتمع .. سينعم هو بالسكينة ويكتفى بها ...
وقف على قدميه أخيرًا .. جفف وجهه المبلل بخليط من دموع مالحة وماء صنبور عذب .. وأخذ طريقه نحو باب الشقة .. ثم تذكر ..
كوب (سيندريللا) .. عاد إلى حيث تركته هى فى موضعه على المنضدة .. أمسك به باصبعيه السبابة والإبهام .. وفكر :
"سأحتاج إلى النوم العميق بعد كل هذا غالبًا .. النوم العميق "
ثم فتح الباب .. وخرج !!
رااااااااااااااااااااااااااااااائعة
ردحذفرائعة بشكل مبالغ فيه
أخجلتم تواضعى .. شكرًا 3>
ردحذف