(لـ)ـم يكن هو إلا ذلك الشاب الذى صعد معها إلى شقتها وساعدها فى حمل حاجياتها فى شهامة مريبة ..
كان طويل القامة كعواميد الإضاءة .. نحيل العود كعصا جدك .. وسيمًا كأى رجل وسيم آخر .. وقد رأى تلك العجوز تتهاوى كالبالون الفارغ على الرصيف .. رأى حاجاتها تتساقط متناثرة حولها بينما تتمزق الأكياس البلاستيكية .. تحسس المحقن الذى أودعه فى جيب البنطال الأيمن والمملوء بذلك السائل الشفاف ..ثم تحسس الكيس المحتوى على المسحوق الأبيض والذى ابتاعه صباحًا من الصيدلية فى جيبه الأيسر .. واتجه نحوها .. إنها هى .. ذلك الشعر الأصفر هو هو .. وتلك (البندانة) على مقدمة الرأس هى هى ..وذلك الجسد النحيل البادى كخرقة بالية خالية من الحياة ،كما لو أن أحد مصاصى الدماء قد فرغ للتو من امتصاص ما فى عروقها .. إنه متأكد أنها هى ..لقد تأمل صورتها الفوتوغرافية مرارًا حتى لم يعد ثمة مجال للشك فى أنها هى .. إنها نقطة اللا عودة ..عليه أن يتم الأمر ..لقد أخذ عربونًا جيدًا ..والباقى آتٍ بعد إتمام العملية ..
"سلام عليكم يا حجّة .. "
نظرت إليه بارتياب رافعةً رأسها ببطء لتسمح لعينيها بتأمل ذلك الوجه ..
ساعدها فى الوقوف على قدميها ولملمة أشلائها المتناثرة من أكياس الماركيت البلاستيكية على الرصيف .. وبدون كلمة واحدة سارت هى أمامه مرشدةً إياه لمكان منزلها .. فمن الواضح أنه لم يساعدها ويحمل حقائبها فقط ليتبين أنه لم يفعلها إلا لجذب انتباه حبيبته التى تسير فى أول الشارع أو لكى يجعلها تقتنع بأنه شهم سمح الأخلاق وأنه الرجل المناسب .. لكانت الدنيا مسخرة كبيرة لو كانت تلك هى حقيقة الأمر .. لحسن الحظ كان أول الشارع خاليًا من المارة أو من الفتيات الحسناوات ..اللهم إلا من بائع الخضار وحماره المربوط بالعربة ..
"ألف سلامة يا حاجّة "
لماذا يصر الأحمق على الضغط على الجرح بقوة ؟؟ .. لماذا يصر على لقب (حاجة) .. هذا لأنها (حاجّة) بالفعل ..هذا ما هى عليه..أعنى أنها لم تحج ..ولكن المسنين جميعًا يتشاركون فى ذلك اللقب .. لن يندمل ذلك الجرح أبدًا ما لم يكف الناس عن الضغط عليه .. ربما كان دمّلًا منذ البداية لا جرحًا ..ولو انضغط عليه أكثر من اللازم لانفجر فى وجوههم جميعًا مخرجًا كل الصديد وما إلى ذلك من محتويات مقززة كانت محتبسة بداخله
إحم ..كما كنت أقول .. لَكم هى قاسية تلك الكلمة ذات الأربعة حروف : (حاجّة).. تُذكرها برأسها الخالية من الشعر وقلبها الضعيف ونهديها المتساقطين المترهلين وتجاعيد وجهها التى لم تفلح كريمات الأساس فى إخفائها ..
اكتفت بهزة رأس و :"تسلم يا ابنى"
هذا ما يجب أن تسير عليه الأمور .. المرأة المسنة والفتى الشهم الوسيم الذى يناديها بالـ(حاجّة) .. فتشعر بأنه ابنها ويشعر بأنها أمه .. ويبقى ليعتنى بها حتى تخطو قدماها إلى القبر فيتولى هو دفنها بينما يكون ابنيها وابنتها منشغلين فى مشاداتهم مع أبنائهم الصغار ..
استكملت المسير إلى حيث تسكن ..يسير هو فى ذيولها حاملًا ما جمعه من حاجياتها التى تساقطت على الرصيف ..
بلغت تلك العمارة حيث تسكن .. فتوقفت ..ففهم هو الإشارة وصاح من فوره :
"أبدًا .. هاطلع وهاشيلهم لحد المطبخ .. أنا مارضاهاش على أمى .. وحضرتك يا حاجّة من دور أمى برضه .."
أومأت برأسها وابتسمت بصعوبة .. لم تعد عضلات وجهها تعمل كما يجب مؤخرًا .. فى الحقيقة لم يعد هناك ما يعمل كما يجب فى جسدها ..
وهنا نعود للمشهد الذى بدأنا به قصتنا ..
يصعدان الدرج .. بينما يخبرها هو : "لازم أساعدك يا حجّة .. الشنط هاتدخل لحد عندك فى المطبخ"
أخرجت المفاتيح من حقيبة اليد الصغيرة التى أهدتها إياها ابنتها منذ خمسة أعوام تقريبًا .. ودست مفتاح الشقة فى ثقب الباب ..
خطت بقدميها المدسوستين فى الخُف الجلدى الأسود إلى الشقة المظلمة ..واستعانةً بضوء الصباح القادم من الباب المفتوح ..استطاعت أصابعها إيجاد طريقها إلى مفتاح النور .. ضغطته ..ثم تنحت لتفسح له المجال ليدخل ..
"كفاية عليك كده يابنى .. حطهم هنا أنا هادخلهم جوة بنفسى .. تعالى ادخل استريح شوية عشان المجهود اللى عملته ده .. أكيد تعبان "
كان مجرد عرض .. أتعرف تلك العروض حين تكون الساعة الواحدة صباحًا والواحد منا يكون قد استهلك كل شعلة نشاطه فلم يتبق منها إلا الشمع الذائب والفتيل .. حين يهم بالعودة إلى منزله بصحبة صديقه ،موجهًا تفكيره إلى الجلوس أمام التلفاز وخلع الحذاء والإستلقاء على الأريكة وتناول عشاءً متأخرًا .. حينها يعرض على صديقه ذاك عرضًا على غرار : "ما تطلع تشرب معانا كباية شاى يا عم " .. هو لا يعنى ما يقول بالتأكيد .. هو عرض من تلك العروض التى تكون موقنًا أيما اليقين أنها ستُقابل بالرفض القاطع . دعوة لشرب شاى منزلى فى الواحدة صباحًا ؟؟..أعنى أى جنون هذا ؟؟ ..
الطامة الكبرى حين يُقابل عرضك الوهمى ذاك بالإيجاب .. حينها فلتتحمل نتيجة زيفك وبلاهتك وتمسك بالتكلف الزائف ..
لم نبتعد كثيرًا بهذا المثال عما حدث مع بطلتنا العجوز .. راقبت فى رعب وتوجس تردده وتوسلت فى سرها ألا يكون ذبابة من ذلك الذباب الإجتماعى الذى يلتصق بأول شخص يقابله فى الطريق ..
على استحياء قَبَل عرضها .. يا للإحراج .. فلتُحضر له بعض الشاى ثم إذا لم يذهب بعدها فلتذهب المظاهر الإجتماعية إلى الجحيم ..ستطرده إذا لزم الأمر ..
"اقعد يابنى .. هاحضرلك كباية شاى "
سارع بالقول : "لا لا ..ماتتعبيش نفسك يا حاجّة ..لو تسمحيلى أنا أحضرلنا كبايتين شاى .. حضرتك زى أمى برضه .. اقعدى ريحى على الكنبة .. وأنا هاعمل الشاى ..هايروقلك بالك .."
يا للجرأة .. لم تكد تقابله فى الشارع منذ عشر دقائق .. وهو الآن فى شقتها ..بل والأدهى من ذلك يطلب الدخول لمطبخها لإعداد كوبين من الشاى ..
قال وكأنه شعر بما يعتمل فى ذهنها :
"ماتآخذنيش يا حاجّة ..حضرتك زى أمى برضه .. كنت عايز أعمل حاجة تفتكرينى بيها .. لو حضرتك تسمحيلى طبعًا .."
هزت رأسها بصعوبة نظرًا لتشنجات رقبتها .. ثم قالت : "وايه الضرر يابنى .. اتفضل المطبخ تحت أمرك " !!.
يُتبَع ...
كان طويل القامة كعواميد الإضاءة .. نحيل العود كعصا جدك .. وسيمًا كأى رجل وسيم آخر .. وقد رأى تلك العجوز تتهاوى كالبالون الفارغ على الرصيف .. رأى حاجاتها تتساقط متناثرة حولها بينما تتمزق الأكياس البلاستيكية .. تحسس المحقن الذى أودعه فى جيب البنطال الأيمن والمملوء بذلك السائل الشفاف ..ثم تحسس الكيس المحتوى على المسحوق الأبيض والذى ابتاعه صباحًا من الصيدلية فى جيبه الأيسر .. واتجه نحوها .. إنها هى .. ذلك الشعر الأصفر هو هو .. وتلك (البندانة) على مقدمة الرأس هى هى ..وذلك الجسد النحيل البادى كخرقة بالية خالية من الحياة ،كما لو أن أحد مصاصى الدماء قد فرغ للتو من امتصاص ما فى عروقها .. إنه متأكد أنها هى ..لقد تأمل صورتها الفوتوغرافية مرارًا حتى لم يعد ثمة مجال للشك فى أنها هى .. إنها نقطة اللا عودة ..عليه أن يتم الأمر ..لقد أخذ عربونًا جيدًا ..والباقى آتٍ بعد إتمام العملية ..
"سلام عليكم يا حجّة .. "
نظرت إليه بارتياب رافعةً رأسها ببطء لتسمح لعينيها بتأمل ذلك الوجه ..
ساعدها فى الوقوف على قدميها ولملمة أشلائها المتناثرة من أكياس الماركيت البلاستيكية على الرصيف .. وبدون كلمة واحدة سارت هى أمامه مرشدةً إياه لمكان منزلها .. فمن الواضح أنه لم يساعدها ويحمل حقائبها فقط ليتبين أنه لم يفعلها إلا لجذب انتباه حبيبته التى تسير فى أول الشارع أو لكى يجعلها تقتنع بأنه شهم سمح الأخلاق وأنه الرجل المناسب .. لكانت الدنيا مسخرة كبيرة لو كانت تلك هى حقيقة الأمر .. لحسن الحظ كان أول الشارع خاليًا من المارة أو من الفتيات الحسناوات ..اللهم إلا من بائع الخضار وحماره المربوط بالعربة ..
"ألف سلامة يا حاجّة "
لماذا يصر الأحمق على الضغط على الجرح بقوة ؟؟ .. لماذا يصر على لقب (حاجة) .. هذا لأنها (حاجّة) بالفعل ..هذا ما هى عليه..أعنى أنها لم تحج ..ولكن المسنين جميعًا يتشاركون فى ذلك اللقب .. لن يندمل ذلك الجرح أبدًا ما لم يكف الناس عن الضغط عليه .. ربما كان دمّلًا منذ البداية لا جرحًا ..ولو انضغط عليه أكثر من اللازم لانفجر فى وجوههم جميعًا مخرجًا كل الصديد وما إلى ذلك من محتويات مقززة كانت محتبسة بداخله
إحم ..كما كنت أقول .. لَكم هى قاسية تلك الكلمة ذات الأربعة حروف : (حاجّة).. تُذكرها برأسها الخالية من الشعر وقلبها الضعيف ونهديها المتساقطين المترهلين وتجاعيد وجهها التى لم تفلح كريمات الأساس فى إخفائها ..
اكتفت بهزة رأس و :"تسلم يا ابنى"
هذا ما يجب أن تسير عليه الأمور .. المرأة المسنة والفتى الشهم الوسيم الذى يناديها بالـ(حاجّة) .. فتشعر بأنه ابنها ويشعر بأنها أمه .. ويبقى ليعتنى بها حتى تخطو قدماها إلى القبر فيتولى هو دفنها بينما يكون ابنيها وابنتها منشغلين فى مشاداتهم مع أبنائهم الصغار ..
استكملت المسير إلى حيث تسكن ..يسير هو فى ذيولها حاملًا ما جمعه من حاجياتها التى تساقطت على الرصيف ..
بلغت تلك العمارة حيث تسكن .. فتوقفت ..ففهم هو الإشارة وصاح من فوره :
"أبدًا .. هاطلع وهاشيلهم لحد المطبخ .. أنا مارضاهاش على أمى .. وحضرتك يا حاجّة من دور أمى برضه .."
أومأت برأسها وابتسمت بصعوبة .. لم تعد عضلات وجهها تعمل كما يجب مؤخرًا .. فى الحقيقة لم يعد هناك ما يعمل كما يجب فى جسدها ..
وهنا نعود للمشهد الذى بدأنا به قصتنا ..
يصعدان الدرج .. بينما يخبرها هو : "لازم أساعدك يا حجّة .. الشنط هاتدخل لحد عندك فى المطبخ"
أخرجت المفاتيح من حقيبة اليد الصغيرة التى أهدتها إياها ابنتها منذ خمسة أعوام تقريبًا .. ودست مفتاح الشقة فى ثقب الباب ..
خطت بقدميها المدسوستين فى الخُف الجلدى الأسود إلى الشقة المظلمة ..واستعانةً بضوء الصباح القادم من الباب المفتوح ..استطاعت أصابعها إيجاد طريقها إلى مفتاح النور .. ضغطته ..ثم تنحت لتفسح له المجال ليدخل ..
"كفاية عليك كده يابنى .. حطهم هنا أنا هادخلهم جوة بنفسى .. تعالى ادخل استريح شوية عشان المجهود اللى عملته ده .. أكيد تعبان "
كان مجرد عرض .. أتعرف تلك العروض حين تكون الساعة الواحدة صباحًا والواحد منا يكون قد استهلك كل شعلة نشاطه فلم يتبق منها إلا الشمع الذائب والفتيل .. حين يهم بالعودة إلى منزله بصحبة صديقه ،موجهًا تفكيره إلى الجلوس أمام التلفاز وخلع الحذاء والإستلقاء على الأريكة وتناول عشاءً متأخرًا .. حينها يعرض على صديقه ذاك عرضًا على غرار : "ما تطلع تشرب معانا كباية شاى يا عم " .. هو لا يعنى ما يقول بالتأكيد .. هو عرض من تلك العروض التى تكون موقنًا أيما اليقين أنها ستُقابل بالرفض القاطع . دعوة لشرب شاى منزلى فى الواحدة صباحًا ؟؟..أعنى أى جنون هذا ؟؟ ..
الطامة الكبرى حين يُقابل عرضك الوهمى ذاك بالإيجاب .. حينها فلتتحمل نتيجة زيفك وبلاهتك وتمسك بالتكلف الزائف ..
لم نبتعد كثيرًا بهذا المثال عما حدث مع بطلتنا العجوز .. راقبت فى رعب وتوجس تردده وتوسلت فى سرها ألا يكون ذبابة من ذلك الذباب الإجتماعى الذى يلتصق بأول شخص يقابله فى الطريق ..
على استحياء قَبَل عرضها .. يا للإحراج .. فلتُحضر له بعض الشاى ثم إذا لم يذهب بعدها فلتذهب المظاهر الإجتماعية إلى الجحيم ..ستطرده إذا لزم الأمر ..
"اقعد يابنى .. هاحضرلك كباية شاى "
سارع بالقول : "لا لا ..ماتتعبيش نفسك يا حاجّة ..لو تسمحيلى أنا أحضرلنا كبايتين شاى .. حضرتك زى أمى برضه .. اقعدى ريحى على الكنبة .. وأنا هاعمل الشاى ..هايروقلك بالك .."
يا للجرأة .. لم تكد تقابله فى الشارع منذ عشر دقائق .. وهو الآن فى شقتها ..بل والأدهى من ذلك يطلب الدخول لمطبخها لإعداد كوبين من الشاى ..
قال وكأنه شعر بما يعتمل فى ذهنها :
"ماتآخذنيش يا حاجّة ..حضرتك زى أمى برضه .. كنت عايز أعمل حاجة تفتكرينى بيها .. لو حضرتك تسمحيلى طبعًا .."
هزت رأسها بصعوبة نظرًا لتشنجات رقبتها .. ثم قالت : "وايه الضرر يابنى .. اتفضل المطبخ تحت أمرك " !!.
يُتبَع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق