الجمعة، 18 أكتوبر 2013

الصوت يعرف أفضل (6/10)

"محمود عزمى محمد .. الصف الثالث الإعدادى .. حاصل على مجموع 259 من 360 "
ينتفض شقيقى للحظة .. ويصيح أبى فى حماس وكأنه يشاهد مباراة كرة كان ينتظر فيها الهدف بفارغ الصبر .. وما أن سجل فريقه الهدف /نودى شقيقى لتسلم شهادة التقدير حتى تعالت جاعورته بالكثير من : "أهو يا بودى .. يلا .. يلا اطلع .. "
تماسك شقيقى الخجول .. وشد قامته النحيلة .. واندفع إلى حيث يقف ذلك اللواء .. كانت نظراتى وقتئذ لصق الأرض .. وكأن ذلك الذى نودى لم يكن شقيقى .لم أكلف نفسى حتى رفع عينىّ قليلًا لأراه على الشاشة الكبيرة أمام مائدتنا يصافح اللواء ويتسلم شهادته ..
"فيه واحدة مكسوفة .. للدرجة دى اتكسفتِ ؟؟"
همس بها الصوت فى استمتاع ..
"انت مش شايف اللى حصل .. عايزنى أعمل ايه يعنى؟؟ ..أصقف وأرقص تانجو على أنغام الموسيقى الكاريبية ؟؟ .. "
ولتعلم -يا من أنت- أننى حين أصاب بالإحراج .. فإن شعورًا شبيهًا بالإختناق ينتابنى .. وأشعر بالعالم يصغر ويصغر ويصغر .. وأن نظرات الناس تخترقنى معلنةً أن العالم لم يعد يتسع لنا جميعًا .. وعلىّ أن أفسح المجال وأرحل عنه لأننى أشغل حيزًا كبيرًا من الفراغ ..
وقد كان مرد ذلك الشعور بالاحراج الذى انتابنى إلى أننا -ما إن دلفنا إلى القاعة- حتى فاجأنا الزحام .. ولم نعثر على منضدة واحدة خالية .. كان هذا حين تعالت نداءات أبى .. ألفيته واقفًا بجوار كرسى خالٍ .. الخلو كان صفة من صفات الكرسى .. لكنه لم يكن أبدًا صفة من صفات المنضدة التى كان الكرسى جزءً منها .. فحول المنضدة التى نحن بصدد الحديث عنها .. تراصت ثلاث كراسٍ استقر على كل منها ثلاثة أفراد .. فتى فى الرابعة عشر يرتدى قميصًا كاروهات أرجوانى ونظارة عملاقة تغطى نصف وجهه .. وفتاة تبدو فى العاشرة .. وبينهما كانت تلك المرأة والتى يبدو بوضوح أنها أمهما ..كانت تنظر لنا فى توجس وبعينين متسعتين  وحاجبين متقابلين تقريبًا من فرط التقطيب.. تتساءل عن ذلك (النطع) الذى يتطفل على مائدتها ..ويرى أن من أبسط حقوقه الإنضمام إليها وابنيها على مائدتهم .. سحب أبى لنفسه أمام عينى كرسيًا من ثلاثة كراسٍ تراصت حول المنضدة .. وجلس وارتاح فى جلسته .. وأشار إلىّ لأجلس .. ثم تعالى صياحه من جديد مناديًا على شقيقى .. فجاء الأخير متوجسًا .. لعله فكر بطبيعته الخجول : "يا للمصيبة .. ترابيزة وعليها تلاتة ؟؟ "
.. هنا ، تذكر أبى أنه ثمة امرأة جالسة ها هنا وطفليها .. فتنحنح فى رقة .. وقال كالجينتلمان الرصين : "سلام عليكم يا مدام "
وكانت المرأة لا زالت فى طور الذهول ..فهزت رأسها وقالت ببطء ولم تزل تلك التقطيبة على وجهها : "و .. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته "
وهكذا كانت جلستنا .. أبى يحاول التقاط الصور لنا فى شتى الأوضاع .. وأنا (مبحلقة) فى الأرض لا أزحزح عينىّ لأنظر فى أى اتجاه آخر .. وأبى يحاول اقناعنا باتخاذ أى وضع ممكن للتصوير دون جدوى.. كنت متأكدة أن الأم وابنيها يتأملوننا فى اهتمام .. وكأننا المريخيين وقد هبطنا من مركبتنا فى زيارة ودية إلى الأرض .. نظراتهم المنطلقة من مسدس أعينهم تخترقنى .. طاخ طاخ طاخ .. رصاص النظرات يحوّل جسدى إلى مصفاة .. تبًا له من احراج !!
فلينته الأمر سريعًا .. فلينته الأمر سريعًا ..
انتهت تلاوة الأسماء ..وتسلم الجميع شهادة  .. ونالوا جميعًا مصافحة مع اللواء ..
ثم تعالت موسيقى أغنية لأم كلثوم لا علاقة لها بمكان بالتفوق ..
ورأيت قمصانًا بيضاء وربطات عنق سوداء تدور هنا وهناك حول الموائد .. فى يد كل نادل طبق يحتوى على (ساليزونز) .. وقطع جاتوه (سواريه) .. أتعرف شطائر السجق ؟؟ .. جيد ، أحضر واحدة منها وعرضها لأشعة تقليص .. وستحصل على تلك الشطائر التى ألفيتها أمامنا فى الأطباق .. نسخ مصغرة من الشطائر والجاتوهات .. انقض الجميع على الطعام .. حتى الأم وطفليها .. لم يكذبا خبرًا .. حاولوا فى البداية الاستفادة من الشوكة والسكين .. لكنهم يأسوا من الأمر .. فوضع كل منهم شوكته وسكينه جانبًا .. وشمروا سواعدهم .. وأخذوا راحتهم تمامًا .. 
اكتفى شقيقى باحتساء بعض السيفن آب .. أما أنا فبقيت أحدق فى الأرضية السيراميكية .. حتى أوشكت على تكوين صداقات معها .. أخذ أبى يلح على لأتناول شيئًا من ألعاب الأطفال تلك التى كانت أمامنا فى الأطباق .. لكننى أبيت متحججة بألم فى معدتى تارةً .. وبأننى تناولت إفطارًا دسمًا فى المنزل تارةً أخرى .. 
فلينته الأمر سريعًا .. فلينته الأمر سريعًا ..
أرغب بشدة فى احتساء القهوة .. يا لحظك يا أمى .. أمتبصرة أنتِ أم ماذا ؟؟ .. تراكِ علمتِ بما سيحدث هنا ؟؟ .. بكَم الملل والسخافة اللذان اتخذا لنفسيهما موضعًا هنا ؟؟ .. فأبيتِ المجىء ..وفضلتِ الإنتظار بالخارج وطلب القهوة .. أراها بعين الخيال ترتشف القهوة بتلذذ وتحمد الله أنها هنا فى مأمن بالخارج .. لا بالداخل فى ذلك السيرك المتنكر فى صورة حفلة لتكريم المتفوقين !!
                               * * * * * * 
"ما تندمجى شوية معاهم .. لازم وصلة النكد دى يعنى ؟؟"

"سيبنى أكمل بحلقة فى الأرض .. مش ناقصاك وحياة أبوك !!"

"بس أنا ماليش أب !!"
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق