عادةً ما يكون من المحتم على أمثالى الصمت للأبد ..ثمة أمور لا تتخيل امتلاك أمثالى لمثلها .. أعنى ..
أرأيت فى حياتك رجل أمن فى المول يكتب مذكراته ؟!! .. أو بالأحرى يكتب اى شىء أصلًا ؟؟ .. إن وظائفنا تحتم علينا أمورًا معينة .. لا يمكن أن ترى الطبيب فى زى آخر إلا البالطو الأبيض ..لا يمكنك أبدًا تخيل ذلك الرجل مرتديًا بذلة وذاهب لحضور فرح ابنة خالته .. أتمنى أن تتعظ يا عزيزى ولا تضع الكائنات فى قوالب !!
المهم ، نعم .. أنا خليط من رجل أمن وعامل مصعد فى مول ..ونعم أكتب مذكراتى .. من فضلك -أيها القارئ أيًا من كنت- لا تتساءل عن المهم جدًا فى حياة رجل هو خليط من رجل أمن وعامل مصعد فى مول ليستحق تدوين مذكرات .. إن نجيب محفوظ كانت له بعضًا من المبررات التى تشفع له ارتكاب ذلك الجرم -كتابة المذكرات-.. لكن أنا ؟؟ .. خليط من رجل أمن وعامل مصعد ؟؟ ..بوووو كم أنا سخيف ..!!
لكنك قد تندهش مما قد يقع فى حياة الرجل المصنوع من مزيج من رجل الأمن وعامل المصعد .. أتدرى مَن كنت ؟؟ ..ما كنت ؟؟
أنا -ولك أن تصدق هذا- متخرج من كلية الهندسة جامعة (.....) ..قسم ميكانيكا بالطبع ..فهم لم يوظفونى كعامل مصعد من فراغ ..
أتدرى ؟؟..البطالة وحش آخر من وحوش الميثولوجيا الإغريقية .. ميدوسا فتاة جميلة وطيبة ذات جدائل ناعمة مقارنة بوحش كالـ(بطالة) .. هى-البطالة- وحش يتشبث بملابسك بشدة حتى لتتمزق ويتركك عاريًا بلا مأوى ولا كرامة ..
آثرت عملًا كهذا على التجول عاريًا فى شوارع القاهرة متدثرًا بالهواء .. نحن لسنا فى الغرب يا سادة حيث يمكن للمتشرد أن يتدثر ببرميل نظيف ويتجول فى الشوارع ممارسًا مهنته بشرف .. قابلنى إن وجدت صندوقًا كارتونيًا سليمًا فى شوراع القاهرة فضلًا عن برميل..
منصور هو السيد هنا .. منصور يعرف كل شىء .. هو من انتشلنى من الضياع فى أول يوم عمل لى ها هنا .. حين وقفت أرمق الشاشات المتصلة بكاميرات المراقبة فى بلاهة فاتحًا فاهى.. لا أدرى من يراقب ما ..وما يراقب أين .. فأرشدنى بلهجة مطمأنة إلى أن هذه كاميرا (1) وهى المسئولة عن مراقبة متاجر الجناح الأيمن من الدور الأول .. وهذه كاميرا (2) ..وهى المسئولة عن ..بلا بلا بلا بلا بلا ..لا أظنك مهتمًا بتفاصيل مماثلة إلا إن كنت تخطط لسرقة مولنا قريبًا ..
المهم ، سارت الحياة على وتيرتها المعتادة .. فى ساعات الصباح الأولى ..أرتدى ملابس رجل الأمن الزرقاء وأخرج من شقتى المتواضعة جدًا جدًا والمكونة من صالة تم تقسيمها لتصير غرفة نوم ومطبخ وصالة.. وحمام منفرد أستعمله أحيانًا كـغرفة للتخزين بالإضافة لقضاء الحاجة ..
كما كنت أقول .. أرتدى ملابسى ثم أتجه إلى المول مستقلًا أتوبيسًا ..تكون عقارب الساعة قد انطبقت على بعضها وتشير إلى تمام السابعة .. فى الدور الأرضى تقبع غرفتنا -نحن رجال الأمن وعمال المصعد- .. يناولنى منصور إفطارًا هو خليط من الفول المدمس والصراصير المسلوقة ..أتناوله شاكرًا وأبتلعه مخمدًا به نيران معدتى الجائعة ..ثم تبدأ سلسلة طويلة من الثرثرة عن الزوجات سليطات اللسان ..وهى ثرثرة لا طرف لى فيها ولا تعنى لى شيئًا إلا أننى أشعر بالتميز لعدم وجود زوجة سليطة اللسان تنتظرنى فى شقتى لتسقينى مُر لسانها أو شبشبها ..ينتهى الإفطار ليبدأ العمل .. أظل واقفًا جوار المصعد ..أصطحب الزبائن عبر الطوابق ..حضرتَك نازل الدور الكام ..حضرِتِك نازلة الدور الكام ..وفى كل مرة نسمع تلك الآية من سورة الزُخرف والتى اعتادها الجميع فى المصاعد : "سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين "
وإن كان الزبون صاعدًا إلى طابق أعلى من الرابع ..نسمع تكملة الآية :"وإنا إلى ربنا لمنقلبون"
وإن كانت طابقًا أعلى نسمع آية أخرى و ....
حسنًا .. من أين أبدأ .. ربما علىّ البدء بسرد تلك الواقعة الفريدة التى حدثت قبل تعيينى فى المول بعدة شهور .. من المعروف أن كاميرات المراقبة تعم المتاجر فى أى مول يحترم نفسه ..المتاجر والممرات وما إلى ذلك .. هذا طبيعى جدًا . لكن الغير طبيعى هو أن تجد كاميرا فى مصعد مثلًا .. من ذا الذى يضع كاميرا مراقبة فى مصعد ..وما الممكن حدوثه فى مصعد ليستحق تلك المراقبة؟؟ .. لاحظت الأمر فى البداية حين أويت إلى حجرة المراقبة بعد إغلاق المول ورحيل الزبائن والباعة .. حين جلست جلستى المريحة أمام الشاشات .. هى كاميرات متطورة أعترف بهذا ..أعتقد كذلك أنها تساوى ثروة لا بأس بها .. لا تقلق ،لا أخطط لسرقتها ..ثمة جزء مما يدعونه :"التربية" لا زال يصرخ بداخلى كلما تبادر إلىّ خاطر كهذا ..
ذلك هو الممر أمام متجر الإيشاربات .. وذاك هو الممر أمام المصعد فى الطابق الثانى .. وذلك هو ... أين هو ذلك المكان ؟؟ ..شىء شبيه بغرفة ضيقة حديدية مظلمة .. وحين لاحظ منصور نظرتى الحيرى قال بينما يلوك ما قضمه من شطيرة الطعمية الملازمة له ككلب وفىّ: "ده الأصانصير "
قالها بلهجته النصف صعيدية المصرة على تضخيم السين وتحويلها بشكل ما إلى صاد .. فهززت رأسى فى بلاهة وتساءلت :"وهم خايفين على ايه ف الأسانسير ؟؟ ..الناس هاتسرق المراية ولا الزراير ؟؟"
فرد قدميه فى ارتياح .. وبدا مستمتعًا بلعب دور الراوى .. وما أن انتهى من بلع تلك القضمة الضخمة من الشطيرة قال فى استمتاع :
"الموضوع حصل قبل ما انت تتعين هنا .. واحد لابس اسود ف اسود دخل الأصانصير مع تلاتة تانيين ..واحدة ست واتنين رجالة ..والتلاتة شكلهم عليهم القيمة كده ومحترمين .. كلهم كانوا طالعين الدور العاشر.. وحسب اللى التلاتة حكوه بعد ما حصل اللى حصل ..الراجل أبو هدوم سودا ده طلع مطواة من هدومه فى الدور التالت ..وخد كل حاجة بقى ..إشى ساعة دهب ..وإشى عُقد ألماظ ..وإشى جاكيت بدلة ..وإشى محفظة مليانة .وإشى وإشى .. أول ما الأصانصير وصل الدور العاشر كان أخد كل حاجة فى شنطة سودا كبيرة كانت معاه .. طلعهم م الأصانصير ونزل هو تانى للدور الأرضى .. وخرج عادى جدًا جدًا ..بس يا سيدى ..ومن ساعة الحادثة دى والإدارة قررت تُحُط كاميرا ف الأصانصير ترصد اللى نازل واللى طالع .. وآدى الحكاية يا عم وخلصت الحدوتة"
بدا لى الأمر مفتعلًا أكثر من اللازم ..ارتداء ذلك الرجل للملابس السوداء يوحى بنمطية شديدة ..تحصر اللص فى قالب معين يحتم عليه ارتداء الملابس السوداء الغامضة ..وكأنه يصرخ دون صوت فى الناس : "على فكرة أنا لص ..ضعونى فى السجن من فضلكم !!"
لذا بدا لى أن ذلك المنصور قد تلاعب ببعض التفاصيل ليضفى جوًا من الغموض على قصته ..
لكنى فى الأيام التالية ..كدت أدعو لمن وضع تلك الكاميرا فى صلواتى وذلك اللص المرتدى "أسود فى أسود" الذى سرق السادة ولـمنصور أيضًا ..فوظيفتى كخليط من عامل مصعد ورجل أمن تجعل الملل أسلوب حياة بالنسبة إلىّ .. مما يجعل مراقبة الناس الداخلين والخارجين من المصعد تسلية مثالية ..خاصةً مراقبة هؤلاء الذين يستخدمون المصعد فرادى دون آخرين معهم .. فيتصرفون على راحتهم تمامًا ..منهم من يتجشأ بحرية شديدة ..وبعض الفتيات يخلعن الطرحة ويعيدن ربطها ..لا لا لا تعطنى تلك النظرة ..أنا أخفض بصرى عند حدوث الأمر ..لست شيطانًا إلى هذه الدرجة .. وأحمل قدرًا من التربية رغم كل شىء ..بالطبع كانت شهوتى إلى النظر تهزم تربيتى فى أحيان كثيرة ..لكنى فى أغلب الحالات أسيطر على نظراتى ..خاصةً حين يتعلق الأمر بفتح سحاب البنطال لإدخال البادى الكارينا فيه ..
دعونا من هذا .. أكثر ما كان يثير ضحكى هو أن ما من شخص دلف إلى ذلك المصعد إلا وألقى نظرة متفحصة على شكله فى المرآه .. حتى وإن كان مستقلو المصعد ثلاثة أو أربعه ..فإنهم لا يتوانون عن النظر بكل راحة إلى مظاهرهم ..التأكد من أن كل شىء على ما يرام ..المايك آب موضوع بدقه ..ياقة القميص فى وضعها الطبيعى .. ما من أحد -وأكرر أنه ما من أحد- لم يلق نظرة مطوله إلى مظهره فى تلك المرآه ..رغم أن المرآه لا تظهر فى مجال إبصار الكاميرا لكنى أعرف مكانها جيدًا ..وأعرف اتجاه أنظارهم جميعًا .. المرآه ..لطالما تعلق كل شىء بالمرآه .. أعتقد أحيانًا أن مرتادى المصعد يرتادونه لوجود تلك المرآه فيه ..خاصةً المراهقات والمراهقين .. رأيت فى مرة تلك الفتاة التى دخلت المصعد وصعدت للطابق الثانى .. وفى أثناء صعود المصعد راحت تضع طبقات من طلاء الشفاة على شفتيها ..ثم ما إن وصل المصعد إلى الطابق المذكور ..ضغطت من جديد على زر الطابق الأول ليعود بها المصعد من حيث أتت !!
أى أنها تكبدت كل ذلك العناء من أجل ذلك الزجاج العاكس المدعو :المرآه ..
لذا فيمكنك ببساطه أن تتخيل شكل حياتى اليومية بالعمل .. مراقبة المصعد ..الكثير من الضحك على هؤلاء الذين ينفردون بأنفسهم فى الأسانسير فيكونون على راحتهم تمامًا ..الصعود فى والنزول -فى بعض الأحيان- بالمصعد مع مرتاديه ..المزيد من المراقبة ..أكواب الشاى بالنعناع والشطائر ..والمزيد من الضحك .. ما أن يدلف أحدهم إلى المصعد حتى أعتدل فى جلستى وأنتظر تلك اللحظة التى ينظر فيها إلى المرآه .. وأحيانًا كنت أقوم برهان بينى وبين منصورعلى شطيرة طعمية على أن الشخص سينظر للمرآه ..ولم أخسر أبدًا ..ولا مرة واحدة ..ربما لهذا بدأت أزداد فى الوزن !!
متى بدأ الأمر إذن ؟.. لا أدرى ..أسبوع ؟؟..اثنان؟؟ .ربما ..
حين دلفت تلك الفتاة إلى المصعد ..بياض بشرتها مبالغ فيه ..شعرها الأسود الفاحم ..وعيناها السوداوتان الموغلتان فى السواد .. ملابسها التى تشى بذوق غريب ..ذلك الفستان الكحلى القصير ذى الطراز الغريب ..وأقول أنه ذو طراز غريب لأن طرازه هو : لا طراز .. مجرد فستان بسيط جدًا ..عبارة عن قطعة من القماش الكحلى تم تفصيلها على هيئة فستان قصير ..لا أكثر !!
لكنها -والحق يقال- كانت بارعة الحسن .. وما إن دلفت إلى المصعد ..وبعد انبهارى بها ..كدت أنادى منصور لنقوم بذلك الرهان المعتاد نظرًا لشعورى بالجوع وقتها .. لكنى توقفت فى اللحظة الأخيرة حين لاحظت الأمر ..إنها لا تنظر إلى المرآة على الإطلاق .. لم تعرها اهتمامًا أبدًا .. كانت ببساطة تنظر .. تنظر إلىّ !!
أعنى أنها كانت تنظر إلى الكاميرا .. بإصرار غريب .. مرت دقيقة على هذا النحو وذلك الوجه يحدق بى من الشاشة المتصلة بكاميرا المصعد .. ثم هل أنا ضعيف الملاحظة ..أم أنها لم تضغط على أى زر من أزرار الطوابق ؟؟
تانك العينان .. تانك العينان ..تانـ...
أرأيت فى حياتك رجل أمن فى المول يكتب مذكراته ؟!! .. أو بالأحرى يكتب اى شىء أصلًا ؟؟ .. إن وظائفنا تحتم علينا أمورًا معينة .. لا يمكن أن ترى الطبيب فى زى آخر إلا البالطو الأبيض ..لا يمكنك أبدًا تخيل ذلك الرجل مرتديًا بذلة وذاهب لحضور فرح ابنة خالته .. أتمنى أن تتعظ يا عزيزى ولا تضع الكائنات فى قوالب !!
المهم ، نعم .. أنا خليط من رجل أمن وعامل مصعد فى مول ..ونعم أكتب مذكراتى .. من فضلك -أيها القارئ أيًا من كنت- لا تتساءل عن المهم جدًا فى حياة رجل هو خليط من رجل أمن وعامل مصعد فى مول ليستحق تدوين مذكرات .. إن نجيب محفوظ كانت له بعضًا من المبررات التى تشفع له ارتكاب ذلك الجرم -كتابة المذكرات-.. لكن أنا ؟؟ .. خليط من رجل أمن وعامل مصعد ؟؟ ..بوووو كم أنا سخيف ..!!
لكنك قد تندهش مما قد يقع فى حياة الرجل المصنوع من مزيج من رجل الأمن وعامل المصعد .. أتدرى مَن كنت ؟؟ ..ما كنت ؟؟
أنا -ولك أن تصدق هذا- متخرج من كلية الهندسة جامعة (.....) ..قسم ميكانيكا بالطبع ..فهم لم يوظفونى كعامل مصعد من فراغ ..
أتدرى ؟؟..البطالة وحش آخر من وحوش الميثولوجيا الإغريقية .. ميدوسا فتاة جميلة وطيبة ذات جدائل ناعمة مقارنة بوحش كالـ(بطالة) .. هى-البطالة- وحش يتشبث بملابسك بشدة حتى لتتمزق ويتركك عاريًا بلا مأوى ولا كرامة ..
آثرت عملًا كهذا على التجول عاريًا فى شوارع القاهرة متدثرًا بالهواء .. نحن لسنا فى الغرب يا سادة حيث يمكن للمتشرد أن يتدثر ببرميل نظيف ويتجول فى الشوارع ممارسًا مهنته بشرف .. قابلنى إن وجدت صندوقًا كارتونيًا سليمًا فى شوراع القاهرة فضلًا عن برميل..
منصور هو السيد هنا .. منصور يعرف كل شىء .. هو من انتشلنى من الضياع فى أول يوم عمل لى ها هنا .. حين وقفت أرمق الشاشات المتصلة بكاميرات المراقبة فى بلاهة فاتحًا فاهى.. لا أدرى من يراقب ما ..وما يراقب أين .. فأرشدنى بلهجة مطمأنة إلى أن هذه كاميرا (1) وهى المسئولة عن مراقبة متاجر الجناح الأيمن من الدور الأول .. وهذه كاميرا (2) ..وهى المسئولة عن ..بلا بلا بلا بلا بلا ..لا أظنك مهتمًا بتفاصيل مماثلة إلا إن كنت تخطط لسرقة مولنا قريبًا ..
المهم ، سارت الحياة على وتيرتها المعتادة .. فى ساعات الصباح الأولى ..أرتدى ملابس رجل الأمن الزرقاء وأخرج من شقتى المتواضعة جدًا جدًا والمكونة من صالة تم تقسيمها لتصير غرفة نوم ومطبخ وصالة.. وحمام منفرد أستعمله أحيانًا كـغرفة للتخزين بالإضافة لقضاء الحاجة ..
كما كنت أقول .. أرتدى ملابسى ثم أتجه إلى المول مستقلًا أتوبيسًا ..تكون عقارب الساعة قد انطبقت على بعضها وتشير إلى تمام السابعة .. فى الدور الأرضى تقبع غرفتنا -نحن رجال الأمن وعمال المصعد- .. يناولنى منصور إفطارًا هو خليط من الفول المدمس والصراصير المسلوقة ..أتناوله شاكرًا وأبتلعه مخمدًا به نيران معدتى الجائعة ..ثم تبدأ سلسلة طويلة من الثرثرة عن الزوجات سليطات اللسان ..وهى ثرثرة لا طرف لى فيها ولا تعنى لى شيئًا إلا أننى أشعر بالتميز لعدم وجود زوجة سليطة اللسان تنتظرنى فى شقتى لتسقينى مُر لسانها أو شبشبها ..ينتهى الإفطار ليبدأ العمل .. أظل واقفًا جوار المصعد ..أصطحب الزبائن عبر الطوابق ..حضرتَك نازل الدور الكام ..حضرِتِك نازلة الدور الكام ..وفى كل مرة نسمع تلك الآية من سورة الزُخرف والتى اعتادها الجميع فى المصاعد : "سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين "
وإن كان الزبون صاعدًا إلى طابق أعلى من الرابع ..نسمع تكملة الآية :"وإنا إلى ربنا لمنقلبون"
وإن كانت طابقًا أعلى نسمع آية أخرى و ....
حسنًا .. من أين أبدأ .. ربما علىّ البدء بسرد تلك الواقعة الفريدة التى حدثت قبل تعيينى فى المول بعدة شهور .. من المعروف أن كاميرات المراقبة تعم المتاجر فى أى مول يحترم نفسه ..المتاجر والممرات وما إلى ذلك .. هذا طبيعى جدًا . لكن الغير طبيعى هو أن تجد كاميرا فى مصعد مثلًا .. من ذا الذى يضع كاميرا مراقبة فى مصعد ..وما الممكن حدوثه فى مصعد ليستحق تلك المراقبة؟؟ .. لاحظت الأمر فى البداية حين أويت إلى حجرة المراقبة بعد إغلاق المول ورحيل الزبائن والباعة .. حين جلست جلستى المريحة أمام الشاشات .. هى كاميرات متطورة أعترف بهذا ..أعتقد كذلك أنها تساوى ثروة لا بأس بها .. لا تقلق ،لا أخطط لسرقتها ..ثمة جزء مما يدعونه :"التربية" لا زال يصرخ بداخلى كلما تبادر إلىّ خاطر كهذا ..
ذلك هو الممر أمام متجر الإيشاربات .. وذاك هو الممر أمام المصعد فى الطابق الثانى .. وذلك هو ... أين هو ذلك المكان ؟؟ ..شىء شبيه بغرفة ضيقة حديدية مظلمة .. وحين لاحظ منصور نظرتى الحيرى قال بينما يلوك ما قضمه من شطيرة الطعمية الملازمة له ككلب وفىّ: "ده الأصانصير "
قالها بلهجته النصف صعيدية المصرة على تضخيم السين وتحويلها بشكل ما إلى صاد .. فهززت رأسى فى بلاهة وتساءلت :"وهم خايفين على ايه ف الأسانسير ؟؟ ..الناس هاتسرق المراية ولا الزراير ؟؟"
فرد قدميه فى ارتياح .. وبدا مستمتعًا بلعب دور الراوى .. وما أن انتهى من بلع تلك القضمة الضخمة من الشطيرة قال فى استمتاع :
"الموضوع حصل قبل ما انت تتعين هنا .. واحد لابس اسود ف اسود دخل الأصانصير مع تلاتة تانيين ..واحدة ست واتنين رجالة ..والتلاتة شكلهم عليهم القيمة كده ومحترمين .. كلهم كانوا طالعين الدور العاشر.. وحسب اللى التلاتة حكوه بعد ما حصل اللى حصل ..الراجل أبو هدوم سودا ده طلع مطواة من هدومه فى الدور التالت ..وخد كل حاجة بقى ..إشى ساعة دهب ..وإشى عُقد ألماظ ..وإشى جاكيت بدلة ..وإشى محفظة مليانة .وإشى وإشى .. أول ما الأصانصير وصل الدور العاشر كان أخد كل حاجة فى شنطة سودا كبيرة كانت معاه .. طلعهم م الأصانصير ونزل هو تانى للدور الأرضى .. وخرج عادى جدًا جدًا ..بس يا سيدى ..ومن ساعة الحادثة دى والإدارة قررت تُحُط كاميرا ف الأصانصير ترصد اللى نازل واللى طالع .. وآدى الحكاية يا عم وخلصت الحدوتة"
بدا لى الأمر مفتعلًا أكثر من اللازم ..ارتداء ذلك الرجل للملابس السوداء يوحى بنمطية شديدة ..تحصر اللص فى قالب معين يحتم عليه ارتداء الملابس السوداء الغامضة ..وكأنه يصرخ دون صوت فى الناس : "على فكرة أنا لص ..ضعونى فى السجن من فضلكم !!"
لذا بدا لى أن ذلك المنصور قد تلاعب ببعض التفاصيل ليضفى جوًا من الغموض على قصته ..
لكنى فى الأيام التالية ..كدت أدعو لمن وضع تلك الكاميرا فى صلواتى وذلك اللص المرتدى "أسود فى أسود" الذى سرق السادة ولـمنصور أيضًا ..فوظيفتى كخليط من عامل مصعد ورجل أمن تجعل الملل أسلوب حياة بالنسبة إلىّ .. مما يجعل مراقبة الناس الداخلين والخارجين من المصعد تسلية مثالية ..خاصةً مراقبة هؤلاء الذين يستخدمون المصعد فرادى دون آخرين معهم .. فيتصرفون على راحتهم تمامًا ..منهم من يتجشأ بحرية شديدة ..وبعض الفتيات يخلعن الطرحة ويعيدن ربطها ..لا لا لا تعطنى تلك النظرة ..أنا أخفض بصرى عند حدوث الأمر ..لست شيطانًا إلى هذه الدرجة .. وأحمل قدرًا من التربية رغم كل شىء ..بالطبع كانت شهوتى إلى النظر تهزم تربيتى فى أحيان كثيرة ..لكنى فى أغلب الحالات أسيطر على نظراتى ..خاصةً حين يتعلق الأمر بفتح سحاب البنطال لإدخال البادى الكارينا فيه ..
دعونا من هذا .. أكثر ما كان يثير ضحكى هو أن ما من شخص دلف إلى ذلك المصعد إلا وألقى نظرة متفحصة على شكله فى المرآه .. حتى وإن كان مستقلو المصعد ثلاثة أو أربعه ..فإنهم لا يتوانون عن النظر بكل راحة إلى مظاهرهم ..التأكد من أن كل شىء على ما يرام ..المايك آب موضوع بدقه ..ياقة القميص فى وضعها الطبيعى .. ما من أحد -وأكرر أنه ما من أحد- لم يلق نظرة مطوله إلى مظهره فى تلك المرآه ..رغم أن المرآه لا تظهر فى مجال إبصار الكاميرا لكنى أعرف مكانها جيدًا ..وأعرف اتجاه أنظارهم جميعًا .. المرآه ..لطالما تعلق كل شىء بالمرآه .. أعتقد أحيانًا أن مرتادى المصعد يرتادونه لوجود تلك المرآه فيه ..خاصةً المراهقات والمراهقين .. رأيت فى مرة تلك الفتاة التى دخلت المصعد وصعدت للطابق الثانى .. وفى أثناء صعود المصعد راحت تضع طبقات من طلاء الشفاة على شفتيها ..ثم ما إن وصل المصعد إلى الطابق المذكور ..ضغطت من جديد على زر الطابق الأول ليعود بها المصعد من حيث أتت !!
أى أنها تكبدت كل ذلك العناء من أجل ذلك الزجاج العاكس المدعو :المرآه ..
لذا فيمكنك ببساطه أن تتخيل شكل حياتى اليومية بالعمل .. مراقبة المصعد ..الكثير من الضحك على هؤلاء الذين ينفردون بأنفسهم فى الأسانسير فيكونون على راحتهم تمامًا ..الصعود فى والنزول -فى بعض الأحيان- بالمصعد مع مرتاديه ..المزيد من المراقبة ..أكواب الشاى بالنعناع والشطائر ..والمزيد من الضحك .. ما أن يدلف أحدهم إلى المصعد حتى أعتدل فى جلستى وأنتظر تلك اللحظة التى ينظر فيها إلى المرآه .. وأحيانًا كنت أقوم برهان بينى وبين منصورعلى شطيرة طعمية على أن الشخص سينظر للمرآه ..ولم أخسر أبدًا ..ولا مرة واحدة ..ربما لهذا بدأت أزداد فى الوزن !!
متى بدأ الأمر إذن ؟.. لا أدرى ..أسبوع ؟؟..اثنان؟؟ .ربما ..
حين دلفت تلك الفتاة إلى المصعد ..بياض بشرتها مبالغ فيه ..شعرها الأسود الفاحم ..وعيناها السوداوتان الموغلتان فى السواد .. ملابسها التى تشى بذوق غريب ..ذلك الفستان الكحلى القصير ذى الطراز الغريب ..وأقول أنه ذو طراز غريب لأن طرازه هو : لا طراز .. مجرد فستان بسيط جدًا ..عبارة عن قطعة من القماش الكحلى تم تفصيلها على هيئة فستان قصير ..لا أكثر !!
لكنها -والحق يقال- كانت بارعة الحسن .. وما إن دلفت إلى المصعد ..وبعد انبهارى بها ..كدت أنادى منصور لنقوم بذلك الرهان المعتاد نظرًا لشعورى بالجوع وقتها .. لكنى توقفت فى اللحظة الأخيرة حين لاحظت الأمر ..إنها لا تنظر إلى المرآة على الإطلاق .. لم تعرها اهتمامًا أبدًا .. كانت ببساطة تنظر .. تنظر إلىّ !!
أعنى أنها كانت تنظر إلى الكاميرا .. بإصرار غريب .. مرت دقيقة على هذا النحو وذلك الوجه يحدق بى من الشاشة المتصلة بكاميرا المصعد .. ثم هل أنا ضعيف الملاحظة ..أم أنها لم تضغط على أى زر من أزرار الطوابق ؟؟
تانك العينان .. تانك العينان ..تانـ...
* * * * * * * * * * * * *
أفقت على تلك اليدين القويتين اللتان راحتا تهزانى فى عنف .. وتلك اللهجة النصف صعيدية التى راحت تقول كلامًا لم أتبينه .. ورائحة الكولونيا المقيتة التى لا أطيقها
قفزت من مكانى شاعرًا بذلك الشعور من انعدام الوزن .. ذلك الشعور الذى يأتيك حين تكون مستيقظًا لتوك .وتكون قدمك اليمنى فى الواقع ..واليسرى لا زالت فى عالم الأحلام ..
"هه ؟؟"
"هه ايه يا عم ؟؟ ..انا جيت عشان أحط الساندويتشات ف الأوضة.. لاقيتك متنح للكاميرا ومنظرك كان يخوف بصراحة يا جدع ..جيت أهزك لاقيتك وقعت منى ع الأرض ..افتكرتك طلعت فوق خلاص وسلمت الروح .. لولا النبض اللى ف إيدك كان زمانى طلبت عربية الدفن .. قعدت أهز فيك لحد ما فُقت اهو ..خضتنى يا عم ..انت فيك ايه مالك ؟؟ "
كان يتكلم بسرعة شديدة وبارتباك ..واستطعت تبين تلك الرجفة فى صوته .. هززت رأسى ولم أرد ..
تبين لى حين نظرت إلى ساعتى أنه قد مرت علىّ نصف ساعة كاملة على هذا الوضع ..محدقًا للشاشة ..إلى تلك الفتاة التى كانت تحدق بعينيها فىّ بدورها ..
رفعت رأسى لأرى أمامى منصورًا حائرًا مرتجفًا ..
"بس ..بس قوللى ..هو انت كنت بتبص على ايه بالتركيز ده ؟؟"
"هه ؟؟ "
فتحت فاهًا .. وأشرت إلى شاشة مراقبة المصعد ..ونظرت ..لكنى لم أجد إلا الظلام !!
رفعت رأسى لأرى أمامى منصورًا حائرًا مرتجفًا ..
"بس ..بس قوللى ..هو انت كنت بتبص على ايه بالتركيز ده ؟؟"
"هه ؟؟ "
فتحت فاهًا .. وأشرت إلى شاشة مراقبة المصعد ..ونظرت ..لكنى لم أجد إلا الظلام !!
* * * * * * * * * *