القصة السخيفة تبدأ منذ شهرين تقريبًا ..
شهر مارس ..
بعد درس الرياضيات فى بيت ناهد .. أرتدى قميصًا صيفيًا خفيفًا قصير الأكمام وبنطالًا كحليًا .. أقف على الشارع أنتظر قدوم الأتوبيس الذى سيقلنى للرماية .. ثم ها هو ذا ..ألمحه من بعيد باللافتة البيضاء الصغيرة التى تحمل رقم (900) .. لم أكن بحاجة إلى التلويح للسائق حتى يتوقف .. فالموقع الذى أقف فيه موقع استراتيجى جدًا لاستقلال المواصلات .. إنه العريش يا عزيزى ..حيث تختلط التكاتك بالميكروبوصات ببائعى الجوارب ببيتزا كينج وكنتاكى بعابرى السبيل والشحاذين الأطفال ..ليصنعوا ذلك المزيج المدعو :"شارع العريش" ..من فضلك ،لا تقنعنى أن أية حافلة تحترم نفسها لن تتوقف أمام هذا الشارع إجلالًا له .. أو حسنًا ..ليس إجلالًا ..ربما فقط لأنه ليس هنالك خيار آخر باستثناء التوقف أمام كل هذا الزحام !!
حسنًا..كما كنت أقول .. ركضت نحو الباب الخلفى ..ودلفت إلى الداخل .. الزحام شنيع وخانق .. رجال ونساء لا يجدون أماكن شاغرة .. أقف بجوار المحصل متمسكة بعمود من تلك العواميد ..أبحث جاهدةً عن جنيه فى جيوبى الشبه خالية..وما إن أجد واحدًا حتى أضعه أمام المحصل المرهق ذى الوجه الكالح من هول ما يراه .. ثم ..هوباااا .. كنت فى تلك اللحظة أمسك فى يدى بعويناتى التى لا أرتديها أبدًا ..وكتاب "وساوس وهلاوس" لأحمد خالد توفيق .. وكما كنت أقول ..هوباااا، سقطت العوينات على أرض الأتوبيس..نظرًا لتلك الرعشة فى يدى والتى كنت أعانى منها فى تلك الفترة من كثرة التدريب على مقطوعة : "Comptain d'un autre" .. كدت أنحنى لألتقطها ..قبل أن أرى ذلك الفتى -فتى من هؤلاء الرقيعين- الذى انحنى والتقطها لى ..
أنت تعرف الرقيعين حين تراهم .. وأعتقد أن لى نظرة معينة فى هذا الشأن .. أخذ يحدق فىّ بشكل غريب حتى أن المحصل المتعب قد لاحظ الأمر وتحفز للتدخل .. كان هذا قبل أن يناولنى الرقيع العوينات قائلًا : "اتفضلى"
تناولتها فى صمت .. أعتقد أنه كان ينتظر مشهدًا رومانسيًا من تلك المشاهد التى ملئوا بها عقولهم فى السينما .. الفتاة توقع كتبها على الأرض ..ثم تنحنى لتلتقطها ..فى نفس الوقت الذى ينحنى فيه فتى شهم ليساعدها فى التقاطها .. ومن ثم ينظران لبعضهما ويقعان فى الحب ..
المهم أنى- فى غضون ثلاث دقائق- نسيت الأمر برمته ..وبدأت أحلم بالعودة للمنزل ..وبسريرى ووسادتى .. وبحلقات " ذا فامباير دياريز" و"بريتى ليتل لايرز" التى تنتظرنى .. وأُمنى نفسى بـحلقات "سوبر ناتشورال" ..و ..
هل أنا أتخيل أم أن الرقيع يحدق فىّ .. لست عُصابية .. وأظننى غير مصابة بالبارانويا ..ولست من مهووسات حقوق المرأة اللاتى يظنن كل رجل ذئب متنكر أو مصيبة تنتظر الوقوع ..لكنى أراه ينظر إلىّ ..وليس فى الأمر لعبة من الضوء ..
ما علينا ..
تجاهلت الأمر ...وعُدت لأحلامى الوردية .. أفقت فقط حين بدأ الأتوبيس يفرغ من حمولته تدريجيًا .. وسرعان ما استطعت الظفر بمكان لا بأس به عند وصولنا للمريوطية.
والآن-وفقط الآن- أستطيع أن أقرأ .. اندمجت قليلًا فى "وساوس وهلاوس" .. وحين رفعت عينىّ عن الكتاب أخيرًا .. اكتشفت أننا على أعتاب بوابات الرماية ..وأن الأتوبيس قد صار خاليًا تقريبًا ..اللهم من بعض الرجال وسيدتين .. وثمة أشخاص يجلسون أمامى وخلفى ومن جانبى ..
كدت أنهمك فى القراءة مجددًا ..قبل أن يستدير ذلك الشخص الجالس أمامى ليكشف عن وجهه ..الرقيع !!
استدار لى وسأل :
"هو الكتاب اللى معاكِ ده جبتيه منين ؟؟..اللى هو محمد خالد كاتبه ده ..أصل أنا باحبه أوى الراجل ده"
سيمفونية الكذب ...
أجبت فى هدوء بارد : "أحمد خالد توفيق..وجبته من معرض الكتاب"
ظننت أنه سيتركنى لحال سبيلى ..لكنه -الأحمق- استرسل فى الحديث :
"طب لو أنا عايز أجيبه ..أجيبه منين ؟؟"
ضغطت على أسنانى .. وقلت :
"مكتبة ألف ..فى شارع العريش مثلًا"
قال فى تعجب : "مكتبة ايه ؟؟ "
ضغطت على أسنانى أكثر حتى كادت تستحيل قطعًا متناثرة على أرضية الحافلة : "ألِف !!"
عرفت من النظرة الأولى أنه كاذب .. ولست متشككة أكثر من اللازم على فكرة .. والدليل أننى صنعت عدة محادثات مع بضعة أشخاص فى المواصلات تبين أنهم قُراء مخضرمون .. وتبادلنا النقاش والأحاديث .. لذا فقد صارت عينى قادرتين على التمييز بين الصادق والمدعى فى تلك الأمور .. ثم أن الأمر لا يحتاج إلى شيرلوك هولمز..
قال الرقيع : "طب ممكن توصفيلى الطريق ؟؟"
لا ، لن أسترسل فى الحديث أكثر من هذا ..
"اسأل أى حَد وانت ماشى"
وتشاغلت بقراءة الكتاب .. لعله يستشعر عدم اهتمامى ..
نظر إلى الأمام ..ثم استدار إلىّ من جديد..ماذا الآن؟
"طب هو معرض الكتاب هايفتح تانى امتى؟؟"
حسنًا .. لست ساذجة تمامًا..اعتبرتها فرصة جيدة للتأكد من صدق ظنونى.
"أنا ماعرفش المعاد بالظبط ..أكيد انت عارفه بما إنك بتحب القراءة وكده "
هاااااع .. حصلت على مرادى .. إنه يفكر ويتعثر فى الكلام ..
"هو الـ.... ..أصل الـ.. ، هو أ.أ.أعتقد يعنى هايفتح الشهر الجاى كده "
مع العلم أننا كنا فى مارس .. ومعرض الكتاب يغلق أبوابه فى السادس من فبراير ..ما شاء الله .. معرض كتاب فى شهر إبريل!!
"الشهر الجاى .. هممم ..ماشى"
وتشاغلت بالكتاب من جديد .. وحين استشعر عدم اهتمامى ،عاد الرقيع لينظر للأمام من جديد .. تنفست الصعداء ..وظننتنى تخلصت من ذلك اللزج للأبد..
لكنه التفت من جديد .. و
"شكرًا"
ما رأيك لو وضعت زوجًا من الجوارب فى فمك ؟؟ ..أينجح ذلك فى إخراسك ؟؟
هززت رأسى وابتسمت ابتسامة مصطنعة .. وعدت للكتاب من جديد .. حمدًا لله أن المنزل قد اقترب .
وها هو المسجد المميز يلوح فى الأفق .. تهيأت للنزول ..وصرخت بأعلى صوت يمكن أن يتغلب على صوت الموتور حتى يسمعنى السائق :
"الجامع لو سماااااااحت"
نزلت من الأتوبيس .. وسرت تلك المسافة القليلة الفاصلة بين العمارة -حيث أسكن- وبين المسجد .. هوم..سويت هوم.
والآن أحكى وقائع أول أمس والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالوقائع التى سردتها للتو ..
مراجعة اللغة الإنجليزية فى شقة سلمى بالتعاون ..بعد امتحان اللغة العربية .. كنا جميعًا فى حالة خفة رأس بعد انتهاء المراجعة .. وكنت فى وضع حرج ..ولا أملك إلا جنيهًا واحدًا ..يكفى كأجرة لأتوبيس من أتوبيسات الرقم(900) ..أما أتوبيسات شركة (الإنجليزية والإسراء) فأجرتها جنيهان ..
استشعرت ناهد الأمر حين لمحتنى أفتش فى جيوبى .. وكذلك مىّ.
"مش معاكِ فلوس ..صح ولا غلط؟"
"لأ والله معايا..على أد اللى هاروح بيه..هايكفينى والله"
ناهد فى تشكك : "أيوه يعنى معاكِ كام يا روروووو .. بصراحة كده "
بطريقةٍ ما ،تهربت من الإجابة .. ووقفنا على الشارع ..ووقفت كل من ناهد ومى وآية معى فى انتظار الأتوبيس..
ومن بعيد لمحت مىّ مينى باص الإنجليزية والإسراء ..
"أهو واحد .. يلا استعدى"
"لأ ..أصل ده .... مش هاينفع ده ..هاستنى 900
بدأت ناهد تشم رائحة ما فى الموضوع.. وأخرجت مى من جيبها جنيهًا ونصف .. بعد الكثير من الرفض .. والإصرار على ركوب الـ900 .. أصرت مىّ على أن أركب ذلك المينى باص بالذات .. وليتها ما فعلت ..ماله الـ900؟؟..من بين كل أتوبيسات القاهرة اخترتِ هذا بالذات ؟؟ وستعرف حالًا لِم أتندم على الأمر ..
ارتقيت درجات المينى باص .. ولوحت لهم مودعةً ..
"سلام يا رانياااااااااع"
إن لم يعرف كل رُكاب الحافلة اسمى ..فإن آذانهم مزيفة أو أنهم يعانون الصمم !!
لوحت لهم من جديد .. وأخرجت الجنيهين ونقدت السائق حقه ..فسلمنى تلك التذكرة المميزة ..
درت بعينىّ باحثةً عن مكان شاغر .. أها .. ثمة مكانين ..واحد أمامى مباشرةً والآخر وسط زحام من الكراسى الملتصقة ببعضها .. اخترت الكرسى القريب .. وكنت قد لمحت الجالس فى الكرسى المجاور لذلك الكرسى الشاغر .. وقَدّرت أنه شاب .. جلست فى المقعد وأخرجت إحدى روايات ما وراء الطبيعة ..لأعيد قراءتها للمرة الـ(ماعرفش الكام بالظبط) ..
وفجأة، أسمع ذلك الصوت آتٍ من جانبى :
"ازيك؟؟"
صوت ذكورى مراهق .. ليست هناك احتمالات كثيرة لمصدر الصوت .. اتسعت عيناى وظننت الجالس شخصًا من معارفى ..ربما فتى من دفعتنا بالمدرسة .. التفتّ لأجد .....
لأجد وجهًا لا أعرفه بالمرة ..ربما أراه للمرة الأولى !!
نظرت نظرة متسائلة إلى ذلك الجالس بجانبى ..
"مش فاكرانى ؟؟ .. النضارة ..الكتاب .. الأتوبيس 900"
كدت أخبره أن "يحل عن نافوخى" وأننى لست المقصودة بالتأكيد .. قبل أن أتذكر فجأة .. وتعود إلىّ الأحداث دفعةً واحدةً
الرقيع !!
كيف ؟؟ .. أية صدفة خرقاء تلك التى تسبب هذا ؟؟ .. هى صدفة غير جديرة بعملها ومن الأفضل سحب رخصتها ..
"آه .. أيوه أيوه ..أهلًا"
"انتِ اسمك رانيا صح ؟؟"
اللعنة ، وها قد عرف اسمى ..
"هممم"
أخذت أتحين الفرص للجلوس فى مكان آخر ..لكن المكان كان ممتلئًا كحانة فى منتصف الليل..
"دول صحابِك اللى كانوا واقفين دول ؟؟"
"آه"
"كان عندكوا امتحان ولا ايه؟؟"
"أها"
"أنا اسمى أحمد"
"أهلًا وسهلًا"
"انتِ فى سنة كام؟؟"
تبًا .. ألن يخرس .. ربما لو أجبت على هذا لرآنى صغيرة أكثر من اللازم بالنسبة إليه ولتركنى وشأنى ..
"تانية ثانوى"
"ربنا يوفقكوا .. أنا فى أولى جامعة ..كلية تجارة"
أومأت برأسى ..وابتسمت أكثر الابتسامات اصطناعًا..ظننته فى البدء شخصًا يشعر بالملل ويريد تزجية وقته فى الحديث..وسيخرس بعد قليل .. لكنه سرعان ما تكلم من جديد :
"انتِ دايمًا بتحبى تقرأى الحاجات الغريبة دى ؟؟"
ومن دون سابق إنذار ..مدّ يده ليقبض على رواية "أسطورة أرض المغول" .. وأخذ يتفحصها بيده "الرقيعة" ..
"آه ده نفس الراجل بتاع المرة اللى فاتت"
" لو سمحت هات الرواية"
أعادها لى .. ثم ...
"انتِ ازاى بتقرأى الحاجات دى .. دى حاجات المرضى النفسيين بيقرأوها!!"
"أيوة ..أنا سايكوباثية معلش بقى "
ليته يخرس .. لكن كما يقولون : "كلها أحلام وأمانى"
"علمى ولا أدبى ؟؟ "
لا حول ولا قوة إلا بالله .. إذن فهو لا يخطط للسكوت .. وبالتالى فعلىّ اللجوء للخطة باء .. أن أفحمه فى الحديث ..
"علمى ..علمى رياضة"
"كويس ..أنا باحب المذاكرة جدًا لعلمك"
"ودخلت تجارة ليه ما دام متفوق كده ؟؟"
هنا بدأ يفكر من جديد ..ثم قال :
"أصل ..الـ... أ أ ..أصل والدى ..والدى توفى قبل الامتحانات بشهر..فالموضوع كان صعب ف المذاكرة بقى وكده ..ده ماكانش طموحى"
وحك أنفه بينما يقول ذلك .. كاذب !!
حسنًا ..لن ألتزم بكلام المحللين النفسيين بأن 90% ممن يحكون أنوفهم أثناء الحديث كذابون .. لكن -كما قلت من قبل- الأمر لا يحتاج إلى شيرلوك هولمز.
"طيب،الله يرحمه"
وانهمكت فى القراءة من جديد ..
"انتِ فى الفاروق صح ؟؟"
كنت وقتها سليمة النية ..ولا أدرى أى شىء يضمره هذا الفتى ..لذا قلت فى براءة :
"أها "
لحظات من الصمت ..ثم ..
"صدفة حلوة صح ؟؟ ..نتقابل مرة فى 900 ..ومرة فى أتوبيس 200 ..صح ؟؟"
لم أرد .. وانهمكت فى القراءة ..
"ايه سكتى ليه ؟؟"
هززت رأسى فى نفاد صبر .. ولم أرد ..
"أنا شفتِك مرتين على فكرة بعد أتوبيس 900..مرة فى الهرم ..ومرة فى الرماية !!"
صَمت ..
"هو انتِ عندك أكونت على الفيسبوك"
زويت ما بين حاجبىّ .. أى تطفل هذا ؟؟
"ينفع تديهونى .. عشان عايز أقولك حاجة كده عليه"
رفعت حاجبًا .. وقلت كاذبةً :
"لأ، أنا مش بتاعة فيسبوك"
"طيب براحتك"
ثم ظل محدقًا فىّ لفترة ..حتى اضطررت أن أنظر له نظرة تعجب حتى يتوقف عن هذا .. للأسف لا أجيد النظرات النارية المرعبة.
أخذت ألعن هذه الصدفة التعسة فى سرى .. لو كنت أملك بعض الفكة، لفررت من هذا الأتوبيس فرارًا ..وركبت آخر ..لكنى عالقةً هنا للأسف..
"انتِ عارفة ؟ ..أنا كان نفسى أقابلك تانى على فكرة .. وفضلت أدور عليكِ !!"
هذا ما كنت أخشاه ..
لم أرد .
"طب هو انتِ مرتبطة؟؟"
ماذا يبغى هذا الكائن السمج ؟
قررت أن أتصدر لهذا السؤال ..خاصةً مع مقتى لهذه الكلمة..
"أنا شايفة إننا شوية عيال ومالناش كلام فى المواضيع دى."
فقال :
"ما اهو اللى ف سنى برضه عيال ..هى فرقت سنتين يعنى؟..بس يعنى ماجاوبتيش على سؤالى"
أغبى هو أم يتظاهر بالغباء؟؟
"أظن أنا جاوبت فعلًا"
"يعنى لأ مش مرتبطة ..هممم"
نظرت حولى من جديد ..لا كراسى شاغرة ..ملتصقون هم بكراسيهم كأن الغراء يبقيهم فيها ..
"ممكن أطلب طلب ؟؟"
قالها الرقيع .. فلم أرد .
"ممكن طيب نبقى صحاب ؟؟"
رائع .. هذا الفتى يقرر فجأة أن نكون أصدقاء لمجرد أنه رآنى فى المواصلات مرتان .. لو كان الأمر هكذا ..لكنت الآن قد كونت صداقات مع ثلاثة أرباع الشعب المصرى !!
"معلش أنا مش اجتماعية !!"
هذا جدير بإفحامه لبعض الوقت ..
"وامال ازاى عندك صحاب زى اللى شفتهم دول ؟؟"
"أنا مكتفية بيهم "
"مش هايضر لو زادوا واحد ..هه؟؟"
وحين لم أرد مدّ يده بكل بساطة وسحب الرواية من يدى .. نظرت إليه فى صرامة وأخبرته أن :
"لو سمحت هات الكتاب"
"أصل انتِ هاتقرأى ولا هاتركزى معايا.. انتِ ازاى هاتقرأى وتتكلمى ف نفس الوقت ..أنا لما باقرأ لمصطفى الفقى لازم أقرأ فى هدوء"
مصطفى الفقى ؟؟ ..دليل آخر على كذبه .. إن كنت قد تعلمت شيئًا فى حياتى القصيرة تلك ..فهو أن المدعين حين يريدون ادعاء حب القراءة ..فإنهم يتظاهرون بحب كاتبين :
إما أحمد مراد ..وإما مصطفى الفقى ..والاختيار الأخير فى الحالات التى لا تدرى شيئًا عن عالم الكتب.. القراءة فى أذهانهم لا تتعدى كتابات "مصطفى الفقى" ..مثل صورة مصر فى أذهان الغربيين مثلًا .. ما إن تذكر مصر حتى يفكرون تلقائيًا فى الأهرام وأبا الهول ..فى كنوز الفراعنة ولعناتهم .. ينسجون جوًا من المغامرة لا وجود له فى عاصمة مزدحمة عادية جدًا .. ويعتبرون أن تحت كل حَجَر سيجدون صولجانًا للجدود الفراعنة أو كنزًا منسيًا !!
المهم ، تناولت الرواية منه فى صرامة .. كده كده الجامع قرب خلاص..الحمد لله.
أسمع السائق يقول :"حَد عايز الصيدلية ؟؟ ..حَد عايز معمل التحاليل؟؟"
فقال الرقيع بصوت خفيض : "لأ ولا أى حاجة من دول ..هاننزل عند المسجد"
رائع ، يعرف أيضًا أين أسكن .. ماذا ينقصه إذن ؟؟ ..رقم هاتفى ؟!..ثم ما قصة صيغة الجمع التى استخدمها تلك ؟؟
فى ذهنى ربطت بين كل ذلك فى سرعة .. وقررت ألا أنزل عند المسجد بأى ثمن ..ووضعت خطة سريعة لما سأفعله ..
"بس انتِ ساكنة فى الدور الكام ؟؟ ..التالت ..صح ؟؟"
اتسعت عيناى رغمًا عنى .. هذا الفتى يعرف أكثر مما ينبغى ..
"معلش أنا عارف كتير عنك ..أصل باشوفك لما بتدخلى البلكونة الصبح تسقى الزرع !!"
ماذا ؟؟ .. داريت دهشتى ..وفى صمت بدأت تنفيذ المخطط الصغير .. الآن نحن على بُعد أمتار من المنطقة العسكرية ..التى يليها خزان المياه ..ويليهما المسجد .. قررت النزول هنا .. سأكون فى غباء الدجاج إن قررت بعد كل هذا النزول عند المسجد ..سأمشى كثيرًا لكن لا بأس ..
بدون كلمة واحدة ..قمت من مكانى واتجهت للسائق ..
"هنا لو سمحت ..هانزل هنا "
توقفت المركبة تدريجيًا .. ونزلت منها سريعًا ..ولم أحاول النظر للمكان الذى يجلس فيه الرقيع لأرى رد فعله ..
تحرك المينى باص من جديد للأمام ..
المركبة أمامها دقيقتان للوصول لمكان المسجد .. علىّ أن أتسمع صوت الموتور العالٍ لأعرف إن كان سيتوقف هناك أم لا .. وإن توقفت المركبة عند المسجد ..فهناك احتمال لا بأس به أن يكون الرقيع هو من نزل منها .. مشيت للأمام ..مررت بأبراج المراقبة المنتشرة فى المنطقة العسكرية .. صوت الموتور بعيد جدًا .. لكنه مسموع .. تك تك تك .. صوت الموتور يهدأ ..أظنه الآن قد وصل للمسجد ..صوت الموتور يهدأ دليلًا على تهدأة السرعة ..ثم يعلو الصوت من جديد دليلًا على انطلاقه .. الزمن بين الانطلاقة والتوقف صغير جدًا ..بمعنى أن النازل لا يمكن أن يكون سيدة ..فالسيدات ينتظرن الأتوبيس حتى يتوقف تمامًا .. أما الفتيان والرجال فغالبًا ما يقفزون متحدين قوة القصور الذاتى .. تجاهلت استنتاجاتى السخيفة وبدأت فى تنفيذ بقية المخطط ..
فى الصيف الماضى ..كنت أطوف بدراجتى فى المدينة كلها منذ الثانية عشر ظهرًا وحتى ما قبل آذان العشاء.. لذا فإنى أعرف كل حَجَر فى هذه المدينة .. وفى مرة من المرات اعترانى الملل .. فبدأت فى اختراع لعبة طفولية بعض الشىء ..ألعبها لتزجية الوقت .. كنت أتخيل مطاردةً بينى وبين جاسوسين يبغيان القبض علىّ لأن "الميكروفيلم" معى ..وهو ميكروفيلم يحوى معلومات خطرة -وكل الميكروفيلمات تحوى معلومات خطرة- ..لذا فكان لابد من تضليل الجاسوسين .. كنت أتخيل مثلًا أن الجاسوسين يقفان الآن عند الخزان ..أو عند المسجد .. وعلىّ أن أخترع طريقًا يدور حول موقعهما ..بحيث أراهما ولا يريانى .. لذا فقد اخترعت طرقًا جانبية كثيرة لا زلت أحفظها حتى الآن .. علىّ الآن أن ألعب مرة أخرى ..لكن هذه المرة بدون الدراجة.. الجاسوسان يقفان عند المسجد .. فما الطريق الأمثل لاتخاذه بحيث أراهما ولا يريانى ؟؟ ..
بدأت أستعيد ذلك المسار الذى اخترعته الصيف الماضى شيئًا فشيئًا .. أرتقى سلالم ..وها هى البالوعة التى حفظت مكانها ..إذن فأنا على الطريق الصحيح ..
الآن أرى المسجد ..أراه بحيث لا يرانى الواقف أمامه .. مشيت بهدوء واسترقت النظر .. وهالنى أن أرى ..
الرقيع !!
يقف واضعًا يديه فى جيبىّ البنطال .. وينظر من حين لآخر للطريق ..وكأنه ....
ينتظر شيئًا ما !!
قررت الإلتزام بالطريق السرى فى هدوء .. سأتأخر قليلًا لكن لا بأس .. استكملت الطريق ومن حين لآخر كنت أنظر خلفى ..علىّ أن أوهمه بأننى لا أسكن هنا عند المسجد .. على حد قوله فقد رآنى فى الشرفة عدة مرات .. لكن من يستطيع الجزم بأننى أعيش هنا ..ربما كنت أبيت عند قريب من أقاربى ..عليه أن يظن هذا ..
المهم ، وصلت للعمارة حيث أسكن.. وخلصت الحكاية .. بدأت الآن أتجنب أتوبيسات 900 و 200 ..وأركب مواصلات أخرى مختلفة.
إنه يعرف مكان المدرسة ..ومكان المنزل.. ذلك المُتعقب !!
شهر مارس ..
بعد درس الرياضيات فى بيت ناهد .. أرتدى قميصًا صيفيًا خفيفًا قصير الأكمام وبنطالًا كحليًا .. أقف على الشارع أنتظر قدوم الأتوبيس الذى سيقلنى للرماية .. ثم ها هو ذا ..ألمحه من بعيد باللافتة البيضاء الصغيرة التى تحمل رقم (900) .. لم أكن بحاجة إلى التلويح للسائق حتى يتوقف .. فالموقع الذى أقف فيه موقع استراتيجى جدًا لاستقلال المواصلات .. إنه العريش يا عزيزى ..حيث تختلط التكاتك بالميكروبوصات ببائعى الجوارب ببيتزا كينج وكنتاكى بعابرى السبيل والشحاذين الأطفال ..ليصنعوا ذلك المزيج المدعو :"شارع العريش" ..من فضلك ،لا تقنعنى أن أية حافلة تحترم نفسها لن تتوقف أمام هذا الشارع إجلالًا له .. أو حسنًا ..ليس إجلالًا ..ربما فقط لأنه ليس هنالك خيار آخر باستثناء التوقف أمام كل هذا الزحام !!
حسنًا..كما كنت أقول .. ركضت نحو الباب الخلفى ..ودلفت إلى الداخل .. الزحام شنيع وخانق .. رجال ونساء لا يجدون أماكن شاغرة .. أقف بجوار المحصل متمسكة بعمود من تلك العواميد ..أبحث جاهدةً عن جنيه فى جيوبى الشبه خالية..وما إن أجد واحدًا حتى أضعه أمام المحصل المرهق ذى الوجه الكالح من هول ما يراه .. ثم ..هوباااا .. كنت فى تلك اللحظة أمسك فى يدى بعويناتى التى لا أرتديها أبدًا ..وكتاب "وساوس وهلاوس" لأحمد خالد توفيق .. وكما كنت أقول ..هوباااا، سقطت العوينات على أرض الأتوبيس..نظرًا لتلك الرعشة فى يدى والتى كنت أعانى منها فى تلك الفترة من كثرة التدريب على مقطوعة : "Comptain d'un autre" .. كدت أنحنى لألتقطها ..قبل أن أرى ذلك الفتى -فتى من هؤلاء الرقيعين- الذى انحنى والتقطها لى ..
أنت تعرف الرقيعين حين تراهم .. وأعتقد أن لى نظرة معينة فى هذا الشأن .. أخذ يحدق فىّ بشكل غريب حتى أن المحصل المتعب قد لاحظ الأمر وتحفز للتدخل .. كان هذا قبل أن يناولنى الرقيع العوينات قائلًا : "اتفضلى"
تناولتها فى صمت .. أعتقد أنه كان ينتظر مشهدًا رومانسيًا من تلك المشاهد التى ملئوا بها عقولهم فى السينما .. الفتاة توقع كتبها على الأرض ..ثم تنحنى لتلتقطها ..فى نفس الوقت الذى ينحنى فيه فتى شهم ليساعدها فى التقاطها .. ومن ثم ينظران لبعضهما ويقعان فى الحب ..
المهم أنى- فى غضون ثلاث دقائق- نسيت الأمر برمته ..وبدأت أحلم بالعودة للمنزل ..وبسريرى ووسادتى .. وبحلقات " ذا فامباير دياريز" و"بريتى ليتل لايرز" التى تنتظرنى .. وأُمنى نفسى بـحلقات "سوبر ناتشورال" ..و ..
هل أنا أتخيل أم أن الرقيع يحدق فىّ .. لست عُصابية .. وأظننى غير مصابة بالبارانويا ..ولست من مهووسات حقوق المرأة اللاتى يظنن كل رجل ذئب متنكر أو مصيبة تنتظر الوقوع ..لكنى أراه ينظر إلىّ ..وليس فى الأمر لعبة من الضوء ..
ما علينا ..
تجاهلت الأمر ...وعُدت لأحلامى الوردية .. أفقت فقط حين بدأ الأتوبيس يفرغ من حمولته تدريجيًا .. وسرعان ما استطعت الظفر بمكان لا بأس به عند وصولنا للمريوطية.
والآن-وفقط الآن- أستطيع أن أقرأ .. اندمجت قليلًا فى "وساوس وهلاوس" .. وحين رفعت عينىّ عن الكتاب أخيرًا .. اكتشفت أننا على أعتاب بوابات الرماية ..وأن الأتوبيس قد صار خاليًا تقريبًا ..اللهم من بعض الرجال وسيدتين .. وثمة أشخاص يجلسون أمامى وخلفى ومن جانبى ..
كدت أنهمك فى القراءة مجددًا ..قبل أن يستدير ذلك الشخص الجالس أمامى ليكشف عن وجهه ..الرقيع !!
استدار لى وسأل :
"هو الكتاب اللى معاكِ ده جبتيه منين ؟؟..اللى هو محمد خالد كاتبه ده ..أصل أنا باحبه أوى الراجل ده"
سيمفونية الكذب ...
أجبت فى هدوء بارد : "أحمد خالد توفيق..وجبته من معرض الكتاب"
ظننت أنه سيتركنى لحال سبيلى ..لكنه -الأحمق- استرسل فى الحديث :
"طب لو أنا عايز أجيبه ..أجيبه منين ؟؟"
ضغطت على أسنانى .. وقلت :
"مكتبة ألف ..فى شارع العريش مثلًا"
قال فى تعجب : "مكتبة ايه ؟؟ "
ضغطت على أسنانى أكثر حتى كادت تستحيل قطعًا متناثرة على أرضية الحافلة : "ألِف !!"
عرفت من النظرة الأولى أنه كاذب .. ولست متشككة أكثر من اللازم على فكرة .. والدليل أننى صنعت عدة محادثات مع بضعة أشخاص فى المواصلات تبين أنهم قُراء مخضرمون .. وتبادلنا النقاش والأحاديث .. لذا فقد صارت عينى قادرتين على التمييز بين الصادق والمدعى فى تلك الأمور .. ثم أن الأمر لا يحتاج إلى شيرلوك هولمز..
قال الرقيع : "طب ممكن توصفيلى الطريق ؟؟"
لا ، لن أسترسل فى الحديث أكثر من هذا ..
"اسأل أى حَد وانت ماشى"
وتشاغلت بقراءة الكتاب .. لعله يستشعر عدم اهتمامى ..
نظر إلى الأمام ..ثم استدار إلىّ من جديد..ماذا الآن؟
"طب هو معرض الكتاب هايفتح تانى امتى؟؟"
حسنًا .. لست ساذجة تمامًا..اعتبرتها فرصة جيدة للتأكد من صدق ظنونى.
"أنا ماعرفش المعاد بالظبط ..أكيد انت عارفه بما إنك بتحب القراءة وكده "
هاااااع .. حصلت على مرادى .. إنه يفكر ويتعثر فى الكلام ..
"هو الـ.... ..أصل الـ.. ، هو أ.أ.أعتقد يعنى هايفتح الشهر الجاى كده "
مع العلم أننا كنا فى مارس .. ومعرض الكتاب يغلق أبوابه فى السادس من فبراير ..ما شاء الله .. معرض كتاب فى شهر إبريل!!
"الشهر الجاى .. هممم ..ماشى"
وتشاغلت بالكتاب من جديد .. وحين استشعر عدم اهتمامى ،عاد الرقيع لينظر للأمام من جديد .. تنفست الصعداء ..وظننتنى تخلصت من ذلك اللزج للأبد..
لكنه التفت من جديد .. و
"شكرًا"
ما رأيك لو وضعت زوجًا من الجوارب فى فمك ؟؟ ..أينجح ذلك فى إخراسك ؟؟
هززت رأسى وابتسمت ابتسامة مصطنعة .. وعدت للكتاب من جديد .. حمدًا لله أن المنزل قد اقترب .
وها هو المسجد المميز يلوح فى الأفق .. تهيأت للنزول ..وصرخت بأعلى صوت يمكن أن يتغلب على صوت الموتور حتى يسمعنى السائق :
"الجامع لو سماااااااحت"
نزلت من الأتوبيس .. وسرت تلك المسافة القليلة الفاصلة بين العمارة -حيث أسكن- وبين المسجد .. هوم..سويت هوم.
* * * * * * * * *
كان هذا منذ شهرين ..وقد نسيت الأمر برمته ..نسيته تمامًا .والآن أحكى وقائع أول أمس والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالوقائع التى سردتها للتو ..
* * * * * * * *
الإثنين .. الخامس من مايو.مراجعة اللغة الإنجليزية فى شقة سلمى بالتعاون ..بعد امتحان اللغة العربية .. كنا جميعًا فى حالة خفة رأس بعد انتهاء المراجعة .. وكنت فى وضع حرج ..ولا أملك إلا جنيهًا واحدًا ..يكفى كأجرة لأتوبيس من أتوبيسات الرقم(900) ..أما أتوبيسات شركة (الإنجليزية والإسراء) فأجرتها جنيهان ..
استشعرت ناهد الأمر حين لمحتنى أفتش فى جيوبى .. وكذلك مىّ.
"مش معاكِ فلوس ..صح ولا غلط؟"
"لأ والله معايا..على أد اللى هاروح بيه..هايكفينى والله"
ناهد فى تشكك : "أيوه يعنى معاكِ كام يا روروووو .. بصراحة كده "
بطريقةٍ ما ،تهربت من الإجابة .. ووقفنا على الشارع ..ووقفت كل من ناهد ومى وآية معى فى انتظار الأتوبيس..
ومن بعيد لمحت مىّ مينى باص الإنجليزية والإسراء ..
"أهو واحد .. يلا استعدى"
"لأ ..أصل ده .... مش هاينفع ده ..هاستنى 900
بدأت ناهد تشم رائحة ما فى الموضوع.. وأخرجت مى من جيبها جنيهًا ونصف .. بعد الكثير من الرفض .. والإصرار على ركوب الـ900 .. أصرت مىّ على أن أركب ذلك المينى باص بالذات .. وليتها ما فعلت ..ماله الـ900؟؟..من بين كل أتوبيسات القاهرة اخترتِ هذا بالذات ؟؟ وستعرف حالًا لِم أتندم على الأمر ..
ارتقيت درجات المينى باص .. ولوحت لهم مودعةً ..
"سلام يا رانياااااااااع"
إن لم يعرف كل رُكاب الحافلة اسمى ..فإن آذانهم مزيفة أو أنهم يعانون الصمم !!
لوحت لهم من جديد .. وأخرجت الجنيهين ونقدت السائق حقه ..فسلمنى تلك التذكرة المميزة ..
درت بعينىّ باحثةً عن مكان شاغر .. أها .. ثمة مكانين ..واحد أمامى مباشرةً والآخر وسط زحام من الكراسى الملتصقة ببعضها .. اخترت الكرسى القريب .. وكنت قد لمحت الجالس فى الكرسى المجاور لذلك الكرسى الشاغر .. وقَدّرت أنه شاب .. جلست فى المقعد وأخرجت إحدى روايات ما وراء الطبيعة ..لأعيد قراءتها للمرة الـ(ماعرفش الكام بالظبط) ..
وفجأة، أسمع ذلك الصوت آتٍ من جانبى :
"ازيك؟؟"
صوت ذكورى مراهق .. ليست هناك احتمالات كثيرة لمصدر الصوت .. اتسعت عيناى وظننت الجالس شخصًا من معارفى ..ربما فتى من دفعتنا بالمدرسة .. التفتّ لأجد .....
لأجد وجهًا لا أعرفه بالمرة ..ربما أراه للمرة الأولى !!
نظرت نظرة متسائلة إلى ذلك الجالس بجانبى ..
"مش فاكرانى ؟؟ .. النضارة ..الكتاب .. الأتوبيس 900"
كدت أخبره أن "يحل عن نافوخى" وأننى لست المقصودة بالتأكيد .. قبل أن أتذكر فجأة .. وتعود إلىّ الأحداث دفعةً واحدةً
الرقيع !!
كيف ؟؟ .. أية صدفة خرقاء تلك التى تسبب هذا ؟؟ .. هى صدفة غير جديرة بعملها ومن الأفضل سحب رخصتها ..
"آه .. أيوه أيوه ..أهلًا"
"انتِ اسمك رانيا صح ؟؟"
اللعنة ، وها قد عرف اسمى ..
"هممم"
أخذت أتحين الفرص للجلوس فى مكان آخر ..لكن المكان كان ممتلئًا كحانة فى منتصف الليل..
"دول صحابِك اللى كانوا واقفين دول ؟؟"
"آه"
"كان عندكوا امتحان ولا ايه؟؟"
"أها"
"أنا اسمى أحمد"
"أهلًا وسهلًا"
"انتِ فى سنة كام؟؟"
تبًا .. ألن يخرس .. ربما لو أجبت على هذا لرآنى صغيرة أكثر من اللازم بالنسبة إليه ولتركنى وشأنى ..
"تانية ثانوى"
"ربنا يوفقكوا .. أنا فى أولى جامعة ..كلية تجارة"
أومأت برأسى ..وابتسمت أكثر الابتسامات اصطناعًا..ظننته فى البدء شخصًا يشعر بالملل ويريد تزجية وقته فى الحديث..وسيخرس بعد قليل .. لكنه سرعان ما تكلم من جديد :
"انتِ دايمًا بتحبى تقرأى الحاجات الغريبة دى ؟؟"
ومن دون سابق إنذار ..مدّ يده ليقبض على رواية "أسطورة أرض المغول" .. وأخذ يتفحصها بيده "الرقيعة" ..
"آه ده نفس الراجل بتاع المرة اللى فاتت"
" لو سمحت هات الرواية"
أعادها لى .. ثم ...
"انتِ ازاى بتقرأى الحاجات دى .. دى حاجات المرضى النفسيين بيقرأوها!!"
"أيوة ..أنا سايكوباثية معلش بقى "
ليته يخرس .. لكن كما يقولون : "كلها أحلام وأمانى"
"علمى ولا أدبى ؟؟ "
لا حول ولا قوة إلا بالله .. إذن فهو لا يخطط للسكوت .. وبالتالى فعلىّ اللجوء للخطة باء .. أن أفحمه فى الحديث ..
"علمى ..علمى رياضة"
"كويس ..أنا باحب المذاكرة جدًا لعلمك"
"ودخلت تجارة ليه ما دام متفوق كده ؟؟"
هنا بدأ يفكر من جديد ..ثم قال :
"أصل ..الـ... أ أ ..أصل والدى ..والدى توفى قبل الامتحانات بشهر..فالموضوع كان صعب ف المذاكرة بقى وكده ..ده ماكانش طموحى"
وحك أنفه بينما يقول ذلك .. كاذب !!
حسنًا ..لن ألتزم بكلام المحللين النفسيين بأن 90% ممن يحكون أنوفهم أثناء الحديث كذابون .. لكن -كما قلت من قبل- الأمر لا يحتاج إلى شيرلوك هولمز.
"طيب،الله يرحمه"
وانهمكت فى القراءة من جديد ..
"انتِ فى الفاروق صح ؟؟"
كنت وقتها سليمة النية ..ولا أدرى أى شىء يضمره هذا الفتى ..لذا قلت فى براءة :
"أها "
لحظات من الصمت ..ثم ..
"صدفة حلوة صح ؟؟ ..نتقابل مرة فى 900 ..ومرة فى أتوبيس 200 ..صح ؟؟"
لم أرد .. وانهمكت فى القراءة ..
"ايه سكتى ليه ؟؟"
هززت رأسى فى نفاد صبر .. ولم أرد ..
"أنا شفتِك مرتين على فكرة بعد أتوبيس 900..مرة فى الهرم ..ومرة فى الرماية !!"
صَمت ..
"هو انتِ عندك أكونت على الفيسبوك"
زويت ما بين حاجبىّ .. أى تطفل هذا ؟؟
"ينفع تديهونى .. عشان عايز أقولك حاجة كده عليه"
رفعت حاجبًا .. وقلت كاذبةً :
"لأ، أنا مش بتاعة فيسبوك"
"طيب براحتك"
ثم ظل محدقًا فىّ لفترة ..حتى اضطررت أن أنظر له نظرة تعجب حتى يتوقف عن هذا .. للأسف لا أجيد النظرات النارية المرعبة.
أخذت ألعن هذه الصدفة التعسة فى سرى .. لو كنت أملك بعض الفكة، لفررت من هذا الأتوبيس فرارًا ..وركبت آخر ..لكنى عالقةً هنا للأسف..
"انتِ عارفة ؟ ..أنا كان نفسى أقابلك تانى على فكرة .. وفضلت أدور عليكِ !!"
هذا ما كنت أخشاه ..
لم أرد .
"طب هو انتِ مرتبطة؟؟"
ماذا يبغى هذا الكائن السمج ؟
قررت أن أتصدر لهذا السؤال ..خاصةً مع مقتى لهذه الكلمة..
"أنا شايفة إننا شوية عيال ومالناش كلام فى المواضيع دى."
فقال :
"ما اهو اللى ف سنى برضه عيال ..هى فرقت سنتين يعنى؟..بس يعنى ماجاوبتيش على سؤالى"
أغبى هو أم يتظاهر بالغباء؟؟
"أظن أنا جاوبت فعلًا"
"يعنى لأ مش مرتبطة ..هممم"
نظرت حولى من جديد ..لا كراسى شاغرة ..ملتصقون هم بكراسيهم كأن الغراء يبقيهم فيها ..
"ممكن أطلب طلب ؟؟"
قالها الرقيع .. فلم أرد .
"ممكن طيب نبقى صحاب ؟؟"
رائع .. هذا الفتى يقرر فجأة أن نكون أصدقاء لمجرد أنه رآنى فى المواصلات مرتان .. لو كان الأمر هكذا ..لكنت الآن قد كونت صداقات مع ثلاثة أرباع الشعب المصرى !!
"معلش أنا مش اجتماعية !!"
هذا جدير بإفحامه لبعض الوقت ..
"وامال ازاى عندك صحاب زى اللى شفتهم دول ؟؟"
"أنا مكتفية بيهم "
"مش هايضر لو زادوا واحد ..هه؟؟"
وحين لم أرد مدّ يده بكل بساطة وسحب الرواية من يدى .. نظرت إليه فى صرامة وأخبرته أن :
"لو سمحت هات الكتاب"
"أصل انتِ هاتقرأى ولا هاتركزى معايا.. انتِ ازاى هاتقرأى وتتكلمى ف نفس الوقت ..أنا لما باقرأ لمصطفى الفقى لازم أقرأ فى هدوء"
مصطفى الفقى ؟؟ ..دليل آخر على كذبه .. إن كنت قد تعلمت شيئًا فى حياتى القصيرة تلك ..فهو أن المدعين حين يريدون ادعاء حب القراءة ..فإنهم يتظاهرون بحب كاتبين :
إما أحمد مراد ..وإما مصطفى الفقى ..والاختيار الأخير فى الحالات التى لا تدرى شيئًا عن عالم الكتب.. القراءة فى أذهانهم لا تتعدى كتابات "مصطفى الفقى" ..مثل صورة مصر فى أذهان الغربيين مثلًا .. ما إن تذكر مصر حتى يفكرون تلقائيًا فى الأهرام وأبا الهول ..فى كنوز الفراعنة ولعناتهم .. ينسجون جوًا من المغامرة لا وجود له فى عاصمة مزدحمة عادية جدًا .. ويعتبرون أن تحت كل حَجَر سيجدون صولجانًا للجدود الفراعنة أو كنزًا منسيًا !!
المهم ، تناولت الرواية منه فى صرامة .. كده كده الجامع قرب خلاص..الحمد لله.
أسمع السائق يقول :"حَد عايز الصيدلية ؟؟ ..حَد عايز معمل التحاليل؟؟"
فقال الرقيع بصوت خفيض : "لأ ولا أى حاجة من دول ..هاننزل عند المسجد"
رائع ، يعرف أيضًا أين أسكن .. ماذا ينقصه إذن ؟؟ ..رقم هاتفى ؟!..ثم ما قصة صيغة الجمع التى استخدمها تلك ؟؟
فى ذهنى ربطت بين كل ذلك فى سرعة .. وقررت ألا أنزل عند المسجد بأى ثمن ..ووضعت خطة سريعة لما سأفعله ..
"بس انتِ ساكنة فى الدور الكام ؟؟ ..التالت ..صح ؟؟"
اتسعت عيناى رغمًا عنى .. هذا الفتى يعرف أكثر مما ينبغى ..
"معلش أنا عارف كتير عنك ..أصل باشوفك لما بتدخلى البلكونة الصبح تسقى الزرع !!"
ماذا ؟؟ .. داريت دهشتى ..وفى صمت بدأت تنفيذ المخطط الصغير .. الآن نحن على بُعد أمتار من المنطقة العسكرية ..التى يليها خزان المياه ..ويليهما المسجد .. قررت النزول هنا .. سأكون فى غباء الدجاج إن قررت بعد كل هذا النزول عند المسجد ..سأمشى كثيرًا لكن لا بأس ..
بدون كلمة واحدة ..قمت من مكانى واتجهت للسائق ..
"هنا لو سمحت ..هانزل هنا "
توقفت المركبة تدريجيًا .. ونزلت منها سريعًا ..ولم أحاول النظر للمكان الذى يجلس فيه الرقيع لأرى رد فعله ..
تحرك المينى باص من جديد للأمام ..
المركبة أمامها دقيقتان للوصول لمكان المسجد .. علىّ أن أتسمع صوت الموتور العالٍ لأعرف إن كان سيتوقف هناك أم لا .. وإن توقفت المركبة عند المسجد ..فهناك احتمال لا بأس به أن يكون الرقيع هو من نزل منها .. مشيت للأمام ..مررت بأبراج المراقبة المنتشرة فى المنطقة العسكرية .. صوت الموتور بعيد جدًا .. لكنه مسموع .. تك تك تك .. صوت الموتور يهدأ ..أظنه الآن قد وصل للمسجد ..صوت الموتور يهدأ دليلًا على تهدأة السرعة ..ثم يعلو الصوت من جديد دليلًا على انطلاقه .. الزمن بين الانطلاقة والتوقف صغير جدًا ..بمعنى أن النازل لا يمكن أن يكون سيدة ..فالسيدات ينتظرن الأتوبيس حتى يتوقف تمامًا .. أما الفتيان والرجال فغالبًا ما يقفزون متحدين قوة القصور الذاتى .. تجاهلت استنتاجاتى السخيفة وبدأت فى تنفيذ بقية المخطط ..
فى الصيف الماضى ..كنت أطوف بدراجتى فى المدينة كلها منذ الثانية عشر ظهرًا وحتى ما قبل آذان العشاء.. لذا فإنى أعرف كل حَجَر فى هذه المدينة .. وفى مرة من المرات اعترانى الملل .. فبدأت فى اختراع لعبة طفولية بعض الشىء ..ألعبها لتزجية الوقت .. كنت أتخيل مطاردةً بينى وبين جاسوسين يبغيان القبض علىّ لأن "الميكروفيلم" معى ..وهو ميكروفيلم يحوى معلومات خطرة -وكل الميكروفيلمات تحوى معلومات خطرة- ..لذا فكان لابد من تضليل الجاسوسين .. كنت أتخيل مثلًا أن الجاسوسين يقفان الآن عند الخزان ..أو عند المسجد .. وعلىّ أن أخترع طريقًا يدور حول موقعهما ..بحيث أراهما ولا يريانى .. لذا فقد اخترعت طرقًا جانبية كثيرة لا زلت أحفظها حتى الآن .. علىّ الآن أن ألعب مرة أخرى ..لكن هذه المرة بدون الدراجة.. الجاسوسان يقفان عند المسجد .. فما الطريق الأمثل لاتخاذه بحيث أراهما ولا يريانى ؟؟ ..
بدأت أستعيد ذلك المسار الذى اخترعته الصيف الماضى شيئًا فشيئًا .. أرتقى سلالم ..وها هى البالوعة التى حفظت مكانها ..إذن فأنا على الطريق الصحيح ..
الآن أرى المسجد ..أراه بحيث لا يرانى الواقف أمامه .. مشيت بهدوء واسترقت النظر .. وهالنى أن أرى ..
الرقيع !!
يقف واضعًا يديه فى جيبىّ البنطال .. وينظر من حين لآخر للطريق ..وكأنه ....
ينتظر شيئًا ما !!
قررت الإلتزام بالطريق السرى فى هدوء .. سأتأخر قليلًا لكن لا بأس .. استكملت الطريق ومن حين لآخر كنت أنظر خلفى ..علىّ أن أوهمه بأننى لا أسكن هنا عند المسجد .. على حد قوله فقد رآنى فى الشرفة عدة مرات .. لكن من يستطيع الجزم بأننى أعيش هنا ..ربما كنت أبيت عند قريب من أقاربى ..عليه أن يظن هذا ..
المهم ، وصلت للعمارة حيث أسكن.. وخلصت الحكاية .. بدأت الآن أتجنب أتوبيسات 900 و 200 ..وأركب مواصلات أخرى مختلفة.
إنه يعرف مكان المدرسة ..ومكان المنزل.. ذلك المُتعقب !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق